بين مطرقة الاحتلال وسندان الهيمنة .. هل تملك الشعوب العربية خيارًا ثالثًا؟

بقلم: سامر شعلان
مع تحوّل الصراع بين إسرائيل وإيران من حرب بالوكالة إلى مواجهة مباشرة، تتجدد حالة الانقسام الحاد في المواقف العربية، ليس فقط على مستوى الأنظمة، بل في وجدان الشارع العربي ذاته، الذي بات يواجه معادلة معقدة تتداخل فيها الجغرافيا السياسية مع الذاكرة التاريخية، ويتقاطع فيها العدو الخارجي مع هواجس الداخل.
ورغم أن العديد من الدول العربية، لا سيما الخليجية منها، ترى في إيران تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي، بفعل طموحاتها النووية ونفوذها المتزايد في العراق وسوريا ولبنان واليمن، جاءت مواقفها من التصعيد الإيراني-الإسرائيلي متفاوتة. بعض هذه الدول بدا وكأنه يراهن على إسرائيل، ولو ضمنيًا، كحاجز ردع أمام النفوذ الإيراني، بينما فضّلت أخرى لغة التهدئة أو بيانات إدانة لم تتجاوز السقف الدبلوماسي المعتاد.
وقد ساهمت “اتفاقيات أبراهام” في تعميق هذا الانقسام، بعدما أرست تحالفات أمنية عربية-إسرائيلية بدت موجهة بالأساس لمواجهة إيران، لا لاستعادة الحقوق الفلسطينية. ورغم أن تلك الترتيبات تمّت بمعزل عن إرادة الشعوب، فإنها كشفت هشاشة المشروع العربي وغياب رؤية موحدة تعبّر عن نبض الشارع ومصالحه.
غير أن المعضلة لا تقتصر على السياسات الرسمية، بل تمتد إلى الرأي العام العربي، الذي انقسم بدوره بين رؤيتين متناقضتين. فثمة تيار يرى في إيران دولة إسلامية تقف في وجه المشروع الصهيوني، ويعتبرها حليفًا موضوعيًا لحركات المقاومة، استنادًا إلى عدائها المعلن لإسرائيل ودعمها الصريح للقضية الفلسطينية، في ظل غياب بدائل عربية قادرة على ملء هذا الفراغ. في المقابل، يرفض تيار آخر هذه الرؤية، معتبرًا إيران قوة طائفية توسعية أسهمت في تأجيج الصراعات المذهبية، وألحقت أضرارًا مباشرة وغير مباشرة بعدد من الدول العربية، في سعيها لاستعادة أمجاد الإمبراطوريات الفارسية القديمة. ويرى أن إيران تمارس نمطًا من الهيمنة لا يقلّ خطورة عن الاحتلال نفسه.
هذا الانقسام الشعبي تغذّيه ذاكرة مثقلة بالحروب الأهلية والصراعات الطائفية، وتؤججه وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، التي تحوّلت إلى ساحات مفتوحة للتخوين والتحريض، وسط زحام الشعارات والانفعالات، حيث تتوارى الحقائق خلف صخب الاصطفاف.
وفي خلفية هذا المشهد، تبقى المصالح الاستراتيجية هي المحرك الأساسي للأنظمة، حيث تتشابك الهواجس الأمنية مع التوازنات الدولية والحسابات الداخلية، في وقت تخشى فيه بعض العواصم أي هزّات شعبية تُعيد إلى الأذهان زمن “الربيع العربي”، الذي مثّل، رغم تعقيداته، لحظة نادرة في وعي الجماهير، عبّرت خلالها عن توقها للحرية والكرامة والعدالة، ورفضها للهيمنة والاستبداد.
ما نشهده اليوم من انقسام عربي تجاه المواجهة بين إسرائيل وإيران ليس طارئًا، بل هو امتداد لتاريخ طويل من الارتهانات المتبادلة والخذلان المزمن، غابت فيه البوصلة المشتركة، كما غاب المشروع العربي القادر على توحيد الشعوب حول أهداف تتجاوز الاستقطاب الطائفي والمصالح الفئوية الضيقة.
وفي ظل هذا التشرذم، يبقى المواطن العربي الحلقة الأضعف؛ يدفع ثمن الصراعات الكبرى دون أن يمتلك حق الاعتراض أو القدرة على التأثير. وبينما تتنازع القوى الإقليمية على النفوذ، يظل غياب المشروع العربي الجامع هو الخطر الأكبر، إذ تتبدد من دونه القدرة على توجيه البوصلة نحو الأولويات الحقيقية: تحرير فلسطين، وصون كرامة الإنسان العربي، أيًّا كان مذهبه أو قوميته.
السؤال الذي يفرض نفسه: هل تملك الشعوب العربية خيارًا ثالثًا؟ خيارًا يتجاوز ثنائية الاحتلال والهيمنة؟
الإجابة، وإن كانت مرّة، تكمن في أن هذا الخيار لن يُمنح، ولن يُولد إلا من خلال مشروع عربي جامع، يعلو فوق الانقسامات الطائفية والولاءات الضيقة، ويعيد توجيه البوصلة نحو القضايا الكبرى: تحرير فلسطين، وصون كرامة الإنسان العربي، دون تمييز مذهبي أو قومي أو سياسي.
وفي غياب هذا المشروع، وبين مطرقة الاحتلال وسندان الهيمنة، تبقى الشعوب العربية معلّقة على أمل صحوة حقيقية، تعيد الاعتبار لوحدة المصير والكرامة والسيادة.