آراء

بين سقوط بغداد وصمود غزة .. التاريخ يكتب من جديد

بقلم: سامر شعلان

Advertisement

في كل مرة نقرأ فيها التاريخ، لا نجده يكرر نفسه حرفيًا، بل يُعيد رواية الحكاية بأسماء جديدة وخرائط مختلفة، لكن بجوهر واحد: الخيانة قبل السقوط.

عام 1258، حين دخل هولاكو بغداد، لم يكن النهر وحده شاهدًا على الجريمة؛ بل الضمائر أيضًا، تلك التي اختارت أن تفتح الأبواب للغزاة وتُغلقها في وجه أهلها. كانت الخيانة سيفًا آخر في يد العدو، لكنها أشد فتكًا، لأنها تنحر من الداخل… بصمتٍ ورضا.

Advertisement

واليوم، تُذبح غزة، لا على يد جيوش الاحتلال فحسب، بل بخناجر تُشهرها أيادٍ من داخل الجسد العربي. لا شيء يبعث على الأسى أكثر من عميل يرتدي عباءة الوطن، أو حاكمٍ يفرش السجاد الأحمر للقاتل، بينما دم الأبرياء لم يجف بعد من تراب الأرض.

ما يجري في غزة ليس مجرد حرب تقليدية، بل معركة وعي وخيانة. يُقاتل فيها المقاوم بصدره، بينما يُسلّم ظهره لطعنة من أولئك الذين يزعمون الانتماء إليه. التنسيق الأمني، والتقارير الاستخباراتية، والميليشيات التي ترتدي الزي الفلسطيني وتخدم العدو، ليست استثناءً، بل امتدادٌ لنمط تاريخي من السقوط الأخلاقي.

ما يُسمّى بـ”أبوشباب” أو غيره، ليسوا سوى نسخًا حديثة ممن فتحوا أسوار بغداد لهولاكو، وسوّغوا المجزرة بذرائع “العقلانية” أو “الحفاظ على النظام”. الخائن لا يتغيّر، فقط يُبدّل اسمه ولهجته ورايته.

أما خيانة الخارج، فهي الأخرى لا تقلّ وطأة. أنظمة عربية هرولت لتوقيع اتفاقيات “سلام” مع العدو في ذروة المجازر، وكأنها تعيش في كوكب آخر؛ كأن صراخ الأطفال تحت الأنقاض لا يصل إلى قصورهم المحصّنة، وكأن الدم الفلسطيني مجرّد هامش في دفتر حساباتهم السياسية.

وما دفعني لكتابة هذا المقال، كلماتٌ لسماحة الشيخ أحمد الخليلي، قال فيها:

“من العجيب أن تسعى بعض الدول لتطبيع العلاقات مع العدو الصهيوني، وهم يؤمنون بزوال هذا الكيان…”

ثم أضاف ساخرًا بمرارة:

“أليسوا يخشون أن تكون صفقتهم هذه خاسرة؟ يا لها من كارثة.”

“إن أسوأ ما يمكن أن يصيب الإنسان في محنته هو أن يرى ما هو سيء على أنه حسن.”

الخيانة، حين ترتدي ثوب “السلام”، تصبح أخطر. لأنها لا تبرّر المذبحة فحسب، بل تُشرعنها، وتحوّل الضحية إلى متهم، والمحتل إلى شريك في صناعة “الاستقرار”. إنها ليست انحرافًا سياسيًا فقط، بل انهيارٌ قيمي يُجرِّم المقاومة ويكافئ الاحتلال.

سقطت بغداد بخيانة الوزراء والأعيان، لا بسطوة المغول وحدهم. احترقت الكتب، وقُتل العلماء، وخُرّبت المدينة، لأن الأمانة ضاعت أولًا في أروقة الحكم، قبل أن تنهار على أسوار المدينة.

وغزة اليوم لا تختلف كثيرًا. ليست الطائرات وحدها من تفتك بها، بل التواطؤ، والصمت، والتصريحات التي تُلبس الخيانة ثوب “الشرعية”، والمواقف التي تغسل يد القاتل من دمه وتقول: هكذا تقتضي السياسة.

ومع ذلك، تبقى غزة واقفة. رغم الخيانة. رغم الجراح. رغم كل من باعها في السوق السوداء للمصالح.

في هذه اللحظات، لا يُعيد التاريخ نفسه فقط، بل يصرخ في وجهنا: من لم يتعلّم من سقوط بغداد، سيسقط حيث سقطت هي، وبالأدوات نفسها.

الخيانة ليست فقط فعلًا، بل صمتًا، تبريرًا، أو مساواة بين القاتل والمقتول. وبينما تسقط أنظمة في وحل التطبيع، تصعد غزة في سُلَّم الكرامة، لأن الكرامة لا تُمنح، بل تُنتزع.

ولهذا… ستبقى غزة.

ستبقى لأن فيها من لا يقايض الدم بالمؤتمرات، ولا يستبدل البندقية بالمصافحة.

ستبقى لأنها، على خلاف بغداد، لم تفتح أبوابها للخونة، بل تعرفهم، وتقاومهم، كما تقاوم عدوها.

وفي النهاية، سيكتب التاريخ مرة أخرى:

الخونة ذهبوا إلى مزابل النسيان، وغزة… بقيت.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى