
بقلم : ناصر عبدالحفيظ
في لحظة تتألق فيها مصر بمشروعات التنمية الكبرى ، من العاصمة الإدارية الجديدة إلى المدن الذكية ، ومن شبكات الطرق العملاقة إلى مبادرات “حياة كريمة”، يبرز سؤال لا يقل أهمية عن كل حجر يُشيد وكل طريق يُمهد:
أين التكريم الموازي لرموزنا الثقافية والفنية؟ وأين الاهتمام بمن رسموا ملامح مصر الناعمة في وجدان الأجيال؟
وسط هذا الزخم التنموي ، تطل علينا سيدة السيرك المصري ، فاتن الحلو ، كنموذج نادر لقامة فنية تركت أثرًا عميقًا في تاريخ الفن العربي. هي امرأة استثنائية ، حملت راية السيرك بعد وفاة زوجها الدكتور إبراهيم الحلو ، وحوّلته إلى مؤسسة فنية واجتماعية رائدة ، تضاهي في تنظيمها وإنجازاتها كبرى الكيانات.
رسمت البهجة في المناسبات القومية ، وأدخلت الفرح إلى قلوب آلاف الأطفال في احتفالات يوم اليتيم ، حيث كانت أبواب السيرك تُفتح مجانًا.
اليوم، تعيش هذه القامة في دار رعاية كبار الفنانين ، منهكة من المرض ومن أعباء الحياة ، بعد أن اختفى ما تبقى من السيرك ، وتراكمت المديونيات ، فآثرت الكرامة على العوز.
تقول فاتن الحلو بصوت يملؤه الصدق والحزن:
“لم أتخلَّ عن الحياة ، لكن أردت أن أُخفف العبء عن بناتي وحفيداتي… أردت أن أحافظ على كرامتي.”
“المديونيات أثقلت كاهلنا، ولم يتبقَ من السيرك شيء… وأنا اخترت الراحة والونس، لا الهروب.”
كلماتها ليست مجرد مشهد إنساني مؤثر، بل جرس إنذار حضاري يفرض علينا إعادة النظر في كيفية تعاملنا مع رموز الفن والثقافة في مصر.
هل لدينا مؤسسات تكفل حياة كريمة لمن أضاءوا دروبنا؟
هل لدينا هيئة تُعنى بتوثيق وتكريم من صنعوا هوية مصر الناعمة؟
مصر التي تعيد بناء وجهها الحديث، لا يمكن أن تكتمل صورتها دون بناء موازٍ يحفظ كرامة رموزها الأحياء.
ربما نحتاج إلى هيئة وطنية لتكريم الرموز الثقافية والفنية، أو إنشاء متحف شرفي يخلد من أفنوا حياتهم في سبيل الفنون والوجدان المصري. نحتاج إلى مظلة قانونية واجتماعية تحميهم، ترعاهم، وتمنحهم نهاية تليق بعطائهم العظيم.
الوجه الذي يليق بمصر
في خضم هذا التغيير الشامل، لن تكتمل صورة مصر الحضارية دون احتضان من صنعوا بهجتها.
وفاتن الحلو، التي أسعدت الملايين، تستحق أن تُكرم في حياتها، لا أن تظل مجرد ذكرى بعد الرحيل.
فلنُثبت أن الدولة التي تشيّد المدن، قادرة أيضًا على تشييد ذاكرة تُنصف رموزها وتمنحهم ما يستحقون من وفاء وعرفان.
التاريخ لا ينسى، فكونوا أنتم الحاضر الذي يختار أن يُكرّم بدلًا من أن يكتفي بالرثاء.