بين الخنجر واللبان .. حين تتحوّل الهوية إلى اقتصاد

بقلم: معمر اليافعي
في عالم يتسابق نحو استثمار كل ما يمكن تحويله إلى قيمة اقتصادية، تبقى ثرواتنا اللامادية – من التراث والهوية والذاكرة الجمعية – رهينة النوايا الطيبة والجهود المتفرقة. في عُمان، لا تنقصنا العناصر الغنية بالفرادة، من اللبان إلى النقش، ومن الخنجر إلى الحكاية، لكن ينقصنا ما هو أهم: الرؤية الشاملة التي تترجم هذه الرموز إلى مشاريع حيّة قادرة على المنافسة والتصدير.
هذا المقال ليس دعوة إلى حفظ التراث من الاندثار فقط، بل هو نداءٌ لتحويله إلى مشروع وطني استثماري، تُبنى عليه الصناعات، وتُخلق من خلاله فرص العمل، ويُعاد من خلاله تعريف الهوية على المسرح العالمي. فحين تُقابل الذاكرة بنظرة اقتصادية ذكية، تتحول من عبء عاطفي إلى فرصة استراتيجية.
ليست مشكلتنا في النقص، بل في الرؤية الناقصة. فعُمان، بما تملكه من تاريخ عريق، وهوية متجذّرة، وتراث غني، لا تعاني من فقر في الموارد، بل من فقر في تنظيم ما نملكه وتحويله من ممارسات فردية متوارثة إلى صناعات معترف بها عالميًا.
لسنا بحاجة لاختراع الجديد، بقدر حاجتنا لإعادة النظر فيما بين أيدينا. لدينا اللبان، والخنجر، والنقش، والزي، والفخار، والقصب، والحكاية، وحتى رائحة الجبال… لكنها ما تزال عالقة بين الذاكرة والفولكلور، لأننا لم نمنحها النظام والرؤية التي تنقلها من الهوية إلى السوق، ومن الماضي إلى المستقبل.
في تجارب عديدة حول العالم، تحوّلت الصناعات التقليدية إلى علامات تجارية عالمية، لا لأنها انطلقت من بيئات أغنى، بل لأنها تأسّست على رؤية شاملة تضم عناصر التمويل، والتعليم، والتنظيم، والحماية القانونية.
فماذا لو كانت هناك هيئة مستقلة تُعنى بتحويل التراث إلى اقتصاد؟ وماذا لو توفرت جهة تمويل تمنح كل شاب فرصةً لتحويل مشروع جدته إلى منتج عالمي؟ ماذا لو التحق الحرفيون ببرامج تطوير تصون هويتهم وتُنمّي مهاراتهم؟ وماذا لو تجاوزنا مرحلة الدعم الرمزي إلى استثمار استراتيجي في الذاكرة الوطنية؟
التراث العُماني، إن لم يتحوّل إلى منتج قابل للتداول والتسويق، سيتحوّل إلى ذكرى جميلة لا تغيّر من الواقع شيئًا. نحن بحاجة إلى تحويل كل قطعة من التاريخ إلى كيان اقتصادي حيّ: مصانع تُنتج منتجات تراثية بمواصفات عالمية، تُباع في الأسواق الخليجية والدولية، ومنصات إلكترونية تعيد تعريف اللبان والخنجر والفن الشعبي وتُدمجها في مجالات التصميم، والعطور، والأزياء، والتقنيات الحديثة.
نحن نملك، لكن لا نُحسن استخدام ما نملك. وإذا لم تتوفر رؤية وطنية ثاقبة – مدعومة بتشريعات، وتمويل، وتنظيم – ستظل الحرف حبيسة الورش الصغيرة، وستبقى الأسواق الكبرى مفتوحة لمنتجات أقل أصالة… لكنها أكثر جرأة وانتشارًا.
نحن بحاجة إلى قرار وطني يُعيد ترتيب المشهد: يحوّل الحرف إلى صناعة، والهوية إلى اقتصاد، والتاريخ إلى مستقبل.
هذه ليست ترفًا، بل ضرورة. فنحن لا نحافظ على التراث لنرثيه، بل لنُعيده إلى الحياة بشكل قابل للنمو والمنافسة والتصدير.
الإرث بلا رؤية يذبل، والهوية التي لا تجد تمويلًا وتنظيمًا تُصبح عبئًا على أهلها. لكن حين تُقابل الذاكرة بنظرة اقتصادية ذكية، تتحوّل إلى كنز متجدّد.
عُمان قادرة على أن تكون رائدة في تصدير تراثها… شريطة أن نمتلك الجرأة، لا فقط للحفاظ على ما نملكه، بل لإخراجه إلى العالم بثقة واقتدار.