الهوية العُمانية المتجددة… حين يتنفس التراث بلغة المستقبل

بقلم : معمر حسين عبداللاه اليافعي
الهوية ليست متحفًا، وليست تمثالًا محفوظًا خلف زجاجٍ بارد.
الهوية، في جوهرها، كائن حيّ يتنفس، يكبر، يتغير، ويُعيد تعريف ذاته عبر الزمن.
حين أتأمل عُمان، لا أراها مجرد أرض تنام على ضفاف التاريخ، بل أراها روحًا تمضي بهدوء نحو المستقبل، دون أن تفقد ملامحها الأولى.
الهوية العُمانية ليست جامدة، بل متجددة.
هي نسيج رقيق يربط بين التقاليد والحداثة، بين “البيزار” وأسواق “المجان”، بين شوارع مسقط الحديثة وأزقة صور العتيقة، بين نزوى التي ما زالت تُلقي بظلها المعرفي على حاضرنا من خلال قلاعها وأسواقها وعلمائها، وبين الحرفيين الذين يصنعون الخنجر بقلوبهم، وأبناء الجيل الجديد الذين يكتبون الكود بلغات لا يفهمها إلا المستقبل.
ولا يمكن الحديث عن الهوية العُمانية المتجددة دون أن نُرجع البصيرة – قبل البصر – إلى زمن السلطان قابوس بن سعيد – طيب الله ثراه.
لقد كان المعلم الأول لفن التوازن بين التحديث والحفاظ على الهوية، بين بناء الدولة الحديثة، وصون روحها الأصيلة.
نحن جيلٌ نشأ في ظل هذا التحوّل التاريخي؛ فتحنا أعيننا على المدارس الحديثة، الطرق المعبدة، الجامعات، ومراكز الثقافة، لكننا كنا نسمع صوته دائمًا يؤكد أن التراث ليس زخرفة، بل هو جوهر الأمة.
لقد زرع فينا، دون أن نشعر، حب التراث، واحترام الماضي، وتقدير الحكاية التي جاءت بنا إلى الحاضر.
كنا نردد الأهازيج، نزور القلاع، ونكرم الأجداد، لا كطقوس ماضية، بل كجزء من وعينا الجديد.
اللبان لم يكن مجرد بخور، بل رمز لعُمان.
الخنجر لم يكن زينة، بل شرف وهوية.
وحتى الأغنية الشعبية، كانت تُذاع في عهده جنبًا إلى جنب مع النشيد الوطني، في توازن لا يتقنه إلا حاكم أحب شعبه وعرف تاريخه.
رحل السلطان قابوس، لكن روحه باقية في كل حجر رُمّم، في كل مهرجانٍ تراثي دُعِم، وفي كل شاب يرى اليوم في التراث فرصة، لا عبئًا.
واليوم، تحت قيادة جلالة السلطان هيثم بن طارق – حفظه الله –
نُكمل هذا الطريق برؤية أكثر انفتاحًا، وبأدوات أكثر تطورًا، لكننا نحمل في أعماقنا البذور الأولى التي زرعها القائد المؤسس: بذور الهوية.
ما يمنح هذا التوازن شرعيته واستمراريته، أن الهوية العُمانية ليست على هامش التقدّم، بل محمية في صلب الدولة.
جاءت رؤية جلالة السلطان هيثم واضحة:
أن نواكب العصر، دون أن نفرّط في ملامحنا.
أن تكون التنمية شاملة، لا تُمحي الإنسان، بل ترتقي به.
تبدو آثار هذه الرؤية واضحة في القرى المتجددة، البيوت المصانة، المعارض التي لا تروّج للتراث كماضٍ ساكن، بل كفرصة مستقبلية.
في عُمان، لا تجد صراعًا بين الأصالة والتطور، بل تعايشًا ذكيًا.
البيت العُماني ما زال يقدّس القهوة، لكن الفنجان صار يُصنع من خزف محلي بتصميم عالمي.
الفتاة العُمانية ما زالت تعتز بعباءتها، لكنها تحمل حقيبة عصرية مزينة بشعار عُماني.
ليست هذه “تجديدًا للهوية”، بل امتدادٌ ناعم لها في الزمن.
وهنا يكمن السر: أن تظل عُمان كما هي، لكن بلسانٍ يُخاطب الجيل القادم.
الهوية المتجددة لا تعني الانفصال عن الماضي، بل أن نلبسه ثوبًا يناسب المستقبل.
ونحن اليوم، في حاجة ماسة إلى فهم هذه المعادلة:
أن الحفاظ على الروح لا يعني الجمود.
وأن دخولنا العصر الرقمي لا يعني نسيان أثر اللبان، أو حكايات القلاع، أو رائحة الصباح من على سفوح الجبل الأخضر.
بناء هوية عُمانية متجددة هو مسؤولية كل من يرى في التراث جذورًا، وفي المستقبل أجنحة.
لكن هذه المهمة لن تزدهر دون دولة تُنصت لنداء الأرض، تبني الإنسان، وتمنح الهوية مكانتها اللائقة في عالم متغير.
ولعل أجمل ما في عُمان… أنها لا تُؤرّخ فقط لما كان، بل تصنع ما سيكون.
