آراء

الموسيقى البحرية العُمانية… حين يغني الموج بلغة الأجداد

بقلم: معمر اليافعي

Advertisement

الموسيقى ليست دائمًا ابنة الأرض، أحيانًا تكون ابنة البحر. وفي عُمان، حيث البحر ليس مجرد أفقٍ أزرق، بل ذاكرة وموطن ورزق، وُلدت الموسيقى البحرية كصوتٍ إنساني يجاور هدير الموج، ويحوّل قسوة الرحلة إلى نغمٍ قابلٍ للعيش.

كان البحّارة العُمانيون يدركون أن البحر طويلٌ وقاسٍ، وأن الأمواج لا تكلّ ولا ترحم، لكنهم كانوا يعلمون أيضًا أن الغناء يخفّف وطأة الانتظار، ويجعل لحظة رفع الشراع أو سحب الحبال جزءًا من لحنٍ مشترك. فالأغنية البحرية لم تكن تسليةً، بل أداة عمل، ولغة تنسيق بين الأيدي، وإيقاعًا يضبط حركة الجسد مع حركة المركب. في كل دفعة مجداف، وفي كل صرخة إيقاعية، كانت أصوات الرجال تنسجم مع نبض البحر، كأنهم يوقّعون اتفاقًا صامتًا معه: نحن نغني… وأنت تهدأ.

Advertisement

في هذه الفنون، هناك شلات تُغنّى عند رفع الأشرعة، وأغانٍ للتجديف، وأخرى تُقال عند رسوّ السفن أو وداعها. كل فنٍّ منها يحمل وظيفة محددة ويعكس لحظة إنسانية حقيقية. فالأغنية البحرية لم تكن استعراضًا بل ضرورةً وجودية، ووسيلةً للبقاء والصبر وإبقاء الروح حيّة وسط الغربة الطويلة والبحار المجهولة.

لكن البحر لم يكن مصدر الرزق فحسب، بل مصدر المعنى أيضًا. فالموسيقى البحرية العُمانية تكشف عن علاقةٍ عميقة بين الإنسان والطبيعة؛ حين يغني البحّار لا يغني لرفاقه فقط، بل يغني للموج والريح والقدَر. هذه الأغاني أشبه بصلواتٍ مفتوحة، تارةً تنشد الفرح حين تعود السفن محمّلة بالبضائع، وتارةً تستدعي الصبر حين تطول الرحلة بلا أفق.

إن الأغنية البحرية ليست تراثًا سمعيًا فحسب، بل وثيقة وطنية تعبّر عن الوجدان الجمعي للبحّارة والعائلات الساحلية. كل إيقاع فيها سطر من التاريخ الشفهي العُماني، وكل لحن شهادة على قدرة الإنسان العُماني على تحويل الخطر إلى جمال، والعمل إلى فن، والتعب إلى نشيدٍ للحياة. إنها ذاكرة تتجاوز الحدود، وتستحق أن تُرفع إلى مصافّ الرموز الثقافية الكبرى.

واليوم، وقد تغيّرت الحياة وتراجعت السفن الشراعية، تراجعت معها هذه الفنون. لم تعد الأغنية البحرية تُغنّى على ظهر السفن كما كانت، بل صارت محفوظة في ذاكرة كبار السن أو في تسجيلات محدودة. وهذا التراجع لا يعني أن البحر صمت، بل إننا لم نعد نُحسن الإصغاء إليه.

أليست هذه الأغاني جديرة بأن تتحوّل إلى عروضٍ موسيقية عالمية؟ أليس من حقها أن تعود، لكن بروحٍ جديدة، عبر مسارح البحر والمهرجانات السياحية؟ يمكن لهذه الألحان أن تُعيد تعريف السياحة العُمانية، ليس عبر الصور فقط، بل عبر الأصوات. تخيّل مهرجانًا في صلالة أو صور يُقام على الشاطئ، حيث تُغنّى الشلات البحرية مع مؤثراتٍ موسيقية حديثة، فتمنح التراث حياةً ثانية، وتحوّله من ذاكرة محلية إلى لغةٍ كونية.

إن الأغنية البحرية العُمانية ليست فولكلورًا للتوثيق، بل مشروعًا للحياة. لكنها تحتاج إلى مؤسسةٍ تتبناها، إلى أكاديميةٍ موسيقية متخصصة تُعيد تعليم هذه الفنون للأجيال وتدمجها مع الموسيقى العالمية. فكما خرج اللبان من جبال ظفار ليصل إلى العالم القديم، يمكن للأغنية البحرية أن تبحر من شواطئ عُمان إلى العالم الحديث.

فالموسيقى البحرية ليست مجرد تراثٍ، بل فلسفة مكان، تعبّر عن العلاقة الأزلية بين الإنسان والبحر، بين الجهد والأمل، بين الخوف والرجاء. إنها تقول لنا إن الإنسان لا يغلب الطبيعة بالقوة، بل يسايرها بالإيقاع، ويصادقها بالنغم.

من تأملات ثروان:

“حين يغني البحر، لا يغني للموج… بل يغني للإنسان الذي يجرؤ على الإبحار معه.”

معمر اليافعي (ابن الحصن)

كاتب وباحث عُماني مهتم بالفكر والهوية والفلسفة المعاصرة

رئيس تحرير سابق لمجلة بيادر

وصاحب تجربة طويلة في الإعلام والثقافة والتجارة

ومؤسس مشروع ثروان – رؤية ثقافية وتجارية لإحياء التراث الخليجي بروحٍ عصرية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى