المتحف المصري الكبير… حين تنهض مصر من التاريخ لتروي حكاية الأبدية

بقلم: سيلينا السعيد
على مشارف الأهرامات، هناك حيث تلتقي الرمال بظلّ التاريخ، ويمتزج الحاضر بأنفاس الفراعنة، فتحت مصر أبواب معجزتها الجديدة أمام العالم: المتحف المصري الكبير.
ليس مجرد متحفٍ من حجرٍ وزجاج، بل رسالة حبٍّ وذاكرةٍ وروحٍ خالدة، تمتد من أعماق النيل إلى أعين الزائرين القادمين من كل قارات الأرض.
في تلك اللحظة التي انفتح فيها الباب على مصراعيه، شعرت القاهرة وكأنها تستعيد شبابها الفرعوني. تسللت الأضواء على وجوه التماثيل القديمة كأنها تهمس للأجيال:
“ها نحن هنا، لم نغِب يومًا… كنا ننتظر من يفهم سرّ الخلود.”
معمار يحكي روح الأهرامات
شُيّد المتحف على مساحة تتجاوز نصف مليون متر مربع، ليكون أكبر متحف أثري في العالم مخصّص لحضارة واحدة. تصميمه المعماري ينحني في احترامٍ لجلال الأهرامات المجاورة، كأنه ابنٌ بارٌّ بأمه الحضارة.
تطلّ واجهته على هضبة الجيزة، فتبدو الشمس وهي تغرب خلف الزجاج الحجري وكأنها تغمس شعاعها في تاريخٍ لا يموت.
في قلب المتحف ينتصب تمثال رمسيس الثاني، بارتفاعه الشاهق وملامحه المطمئنة، وكأنه يستقبل زوّاره بابتسامة من يعرف أن الحضارة المصرية لن تُقهر أبدًا.
وحولَه تمتد القاعات كأجنحةٍ من نور، تضم أكثر من مئة ألف قطعة أثرية تم ترميمها بعنايةٍ وحنانٍ يليقان بأم الدنيا.
الزمن يمشي ببطء داخل القاعات
حين يسير الزائر في ممرات المتحف، لا يسمع إلا وقع الخطى على أرضٍ من التاريخ.
هنا تابوت ذهبي لفرعونٍ حلم بالخلود، وهناك تميمة صغيرة لطفلٍ دفنها أبوه قبل آلاف السنين لئلا يضيع في الطريق إلى السماء.
كل قطعة هنا تحمل وجعًا، ودعاءً، وانتصارًا صغيرًا على الفناء.
وليس صدفةً أن يحتضن المتحف كامل مقتنيات الملك توت عنخ آمون للمرة الأولى في التاريخ — ذلك الفتى الذهبي الذي أعاد الحياة لمصر القديمة حين اكتُشفت مقبرته، وها هو اليوم يعود ليكون أيقونة الجيل الجديد من المصريين والعالم.
تاريخ من البشر… لا من الحجارة فقط
ما يميّز المتحف المصري الكبير ليس ضخامته المعمارية فحسب، بل الروح الإنسانية التي تسكن تفاصيله.
فكل قاعة منه تروي قصة الإنسان المصري: من الفلاح الذي حرث ضفاف النيل، إلى المهندس الذي شاد الأهرامات، إلى الكاهن الذي رفع صلاةً للسماء على جدارٍ من الحجر.
إنه ليس متحفًا للملوك فحسب، بل متحفٌ للإنسان في رحلته بين الأرض والخلود.
حوار بين الماضي والمستقبل
افتتاح المتحف لم يكن مجرد احتفالٍ أثري، بل ولادة جديدة للثقافة المصرية الحديثة.
فالمكان صُمّم ليكون حيًّا نابضًا بالحياة:
فيه قاعات عرض رقمية، ومسارح، ومكتبات، ومراكز بحثية تستحضر التاريخ بروح القرن الحادي والعشرين.
إنها الحداثة التي تضع يدها على كتف الفراعنة وتقول لهم:
“ها نحن نحمل رسالتكم إلى المستقبل.”
مصر… حين تروي للعالم حكايتها
في كلمات الافتتاح، عبّر المسؤولون المصريون والعالميون عن إدهاشهم، لكن المشهد الأعمق كان في عيون الناس:
نساءٌ من النوبة، أطفالٌ من الصعيد، شيوخٌ من الدلتا، جميعهم جاؤوا ليشهدوا كيف يتحول الوطن إلى ذاكرة نابضة.
كانت الأغاني تعلو في الساحات، والموسيقى الفرعونية تمتزج بأصوات الشباب، لتقول للعالم:
“نحن حضارة لا تُختصر بزمن، نحن النيل حين يفيض بالحياة.”
المتحف كرمزٍ لوحدة مصر
يمثل المتحف أيضًا مشروعًا وطنيًا جامعًا، شاركت في بنائه أيادٍ مصرية من مختلف المحافظات، إلى جانب مؤسسات دولية قدّمت الدعم التقني والعلمي.
هنا التقت الجغرافيا بالثقافة، والسياسة بالإبداع، في نقطةٍ واحدة: مصر التي تبني وتُعلّم وتُدهش العالم.
المشهد الأخير: حين يغفو التاريخ على كتف الحاضر
مع مغيب الشمس خلف الأهرامات، يكتسي المتحف بلونٍ ذهبيٍّ دافئ، كأنه جسد من حجرٍ ينبض بالحياة.
تنعكس الأضواء على وجه رمسيس، وتبدو تماثيل الملوك كأنها تتحرك في صمتٍ مهيب.
وهناك فقط، يدرك الزائر أن الحضارة ليست ماضٍ يُروى، بل حاضرٌ يُصنع في كل لحظة بعيون المؤمنين بها.
المتحف المصري الكبير ليس مجرد افتتاحٍ ثقافي، بل احتفالٌ بالحياة نفسها.
إنه وعد مصر للعالم بأن التاريخ يمكن أن يكون مستقبلًا، وأن الحضارة — مهما مرّت عليها العصور — ما زالت قادرة على أن تنبض من جديد.



