الظواهر وحال المجتمع
بقلم : د. صالح الفهدي
رغم أن الحديث الذي أدلى به أحد المُرشدين الاجتماعيين المنتسبين لإحدى المدارس الخاصة كان مؤلماً إلا أنني شخصياً كنت – ومنذ سنواتٍ عديدة – أُنبِّهُ إلى وجود خلل في التربية أكبر من التعليم.
يقول المرشد الاجتماعي أحمد العيسائي : أن طفلاً بين الصف الرابع والسادس – أي أن عمره بين العاشرة والثانية عشرة – قد أُحيل إليهِ لمشاهدته مقاطع خادشة للحياء من جهاز (اللابتوب) ، مشاركاً زملاءه!! وحين استدعى أُمَّ الطفلِ دافعت على الفور عن ابنها ، بل وأَنها رأت ذلك مستحيلاً ، وكأنه من جنسِ الملائكة وليس من جنس البشر الذين تتكوَّن فيهم جرثومة الفساد منذ ولادتهم!!.
تذكرتُ استغاثة مديرة إحدى المدارس وهي تحدِّثني منذ أكثر من عقدٍ من الزمان قائلةً : “أنقذونا قبل أن نغرق” ، وروت لي قصصاً مؤلمة منها أن طالبة في الصف الخامس بعثت إلى معلِّمها بقصاصة ورق صغيرة تبوح فيها عن غرامها به!!.
تذكرتُ قصصاً كثيرة لا أودُّ ذكرها هُنا ولكنها كانت مؤشرات على تغيُّر أخلاقي بسبب الغزو المفسد للأخلاقيات ، وأُعيد التذكير بالدراسة التي أُجرتها وزارة التنمية الاجتماعية بالإشتراك مع جمعية الاجتماعيين العُمانية على المرحلة المتوسطة من طلبة المدارس وشملت 2400 طالب وطالبة ، وتوصلت إلى أن 99% يملكون هواتف ذكيَّة ، وأنَّ 89% من الأطفال يملكون حسابات في وسائل التواصل الاجتماعي ، في حين أنَّ أكثر من 90% يستخدمونها للترفيه والتسلية!! (وهذا التوجُّه هو مظلة واسعة للمواد الصالحة والطالحة).
هُنا نطرح السؤال : هل نقف مكتوفي الأيدي دون حِراك إزاءَ ما نراهُ من اختراق في أخلاقيات الأجيال الناشئة ، أم أن لدينا من الخطط والبرامج المختلفة لمواجهة هذه التيارات اللاأخلاقية التي تتقصَّدُ؟ يقول أحد الأخوة في نقاش بيني وبينه : ما الذي يمكن أن نفعله في وقت أصبح الجميع يملكون هواتف خلوية ، ويستطيعون أن يتابعوا ما شاؤوا من صالحٍ وطالح؟ قُلت : أول ما يجب علينا أن نفعله هو تقوية القاعدة القيمية في التربية ، فإِن قوي البناء القيمي في الشخصية الإنسانية عَصَمه من الانحراف والضلال ، وذلك يحتاجُ إلى عدة عناصر لا مجال لذكرها هُنا ، أما الأمر الآخر ، فالمراقبة مهمة أيضاً لأن الطفل لا يمتلك وعياً كوعي الإنسان الراشد لهذا قد ينجرف لمثيرات الشهوات ، ومحفِّزات الضلالة ، وهناك من الوسائل التي يمكن أن تساعد على المراقبة في مرحلةٍ معينة من المراحل العمرية ، ثم الأمر الثالث وهو تقنين الاستخدام للهواتف وهذا ما فعلته الصين التي وجدت أن الاستخدام المفرط للهواتف قد نتج عنه أضرار صحية وأخلاقية فقنَّنت ساعات الاستخدام وشرَّعت لذلك القوانين اللازمة.
مجتمعنا يواجهُ تحديَّات لا حصرَ لها على الهُوية والأخلاقيات والترابط الأُسري والاجتماعي ، والإشكالية الكبرى أَنه لا توجد مراكز للدراسات تسبرُ أغوار الظواهر الاجتماعية ، والحالات المختلفة فيه ، وهي مراكز ذات أهمية قصوى لا ترتهنُ إلى الشائعات والتأويلات ، وإنما إلى حقائق مستخلصة من دراسات واقعية.
قلتُ سابقاً بأَننا لا يجب أن ننظر إلى الحالات التي تظهر بأنها حالة فردية لا جذور لها بين وقتٍ وآخر ، بل علينا أن نرى ما هو الخفي الذي يمكنُ استقصاؤه من خلال مراكز الاستشارات النفسية والاجتماعية ، ودور الأحداث ، والسجون ، والمستشفيات والمراكز الصحية ، والمحاكم ، فالمخبوءُ يظهر في أبشع صوره ، وأقبحِ أشكاله!.
لا يجب علينا أن نهوِّن من هذه الحالات لأنها تعكسُ صوراً مخفيَّة نُفضِّل للأَسف عدم الحديثِ عنها وهذه إحدى عاداتنا حتى تبقى الصورة ناصعة البياض هي التي يوسم بها المجتمع.
عادة أشبه بما يفعله الكيِّ التقليدي في موضع الإحساس بالألم في الجسد ، حيث يختفي بالكيِّ الشعور بالألم لكن المرض (قد) ينتشرُ في الجسد ، فيحسبُ المريض أن الكيَّ كان علاجاً للمرض وهو في الحقيقة إخفاءً للإحساس بالألم مع بقاء المرض بل وانتشاره في مناطق أُخرى في الجسد!.
وإذا كان هناك فريق لـ (للتدخل السريع) لحل إشكاليات في جوانب استثمارية فإِنَّ الظواهر الأخلاقية ، والاجتماعية تحتاج أيضاً إلى (التدخل السريع) لأنها إن تُركت دون علاج استفحل ضررها ، وتفشَّى مرضها ، وحينها ستكون التكلفة العلاجية باهظة الثمن على المجتمعات ، يقول د. هاني جرجس في مقالة له بعنوان “الظواهر والمشكلات الاجتماعية” : “الظواهر الاجتماعية السلبية هي أخطر أعداء المجتمع ومظهر من مظاهر تدميره الذاتي لنفسه دون وعي أو إدراك” ، ومن هنا ، يتطلَّب الأمر المعالجة الفورية لهذه الظواهر كي لا تصل إلى مرحلة “التدمير الذاتي” للمجتمع ، بل أن تكون دائماً في موضع “تحت السيطرة” ليسهل تتبع أسبابها ، وعلاجها.
هذه دعوة إلى المؤسسات الحكومية ومؤسسات المجتمع المدني والخاصة إلى المبادرة السريعة نحو هذه الظواهر المخيفة التي لا تشكِّل إلا نسبة قليلة مما هو غير ظاهر في جسد المجتمع ، مستذكرين هُنا تشبيه النبي صلى الله عليه وسلم حال المؤمنين بحال الجسد “مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمَّى” ، وهذا هو حال المجتمع الذي يتفاعل مع كل ظاهرةٍ من الظواهر.
المصدر : الرؤية