آراء

الطريق إلى إنهاء الكساد الكبير : قراءة في مأزق الرأسمالية

بقلم: د. تامر ممتاز

Advertisement

الكساد ليس مجرد أزمة اقتصادية عابرة، بل هو عرضٌ لخللٍ عميقٍ في بنية المنظومة الرأسمالية، التي تشكلت ملامحها منذ قرون، وانطلقت من افتراض مركزي: أن السوق الحر والقطاع الخاص قادران وحدهما على قيادة النمو وتوزيع الثروة.

لكن التاريخ – كما الحاضر – أثبت أن هذا الافتراض يحمل في طياته تناقضًا مدمّرًا، لأن القطاع الخاص، بطبيعته الربحية، لا يملك الدافع أو القدرة على توظيف جميع الأفراد، أو توفير الحد الأدنى من العدالة الاقتصادية.

Advertisement

اليوم، وبعد مرور أكثر من مائة عام على أزمة 1929، نشهد مجددًا أعراضًا متكررة: انخفاض الدخول، تراجع الاستهلاك، تعطل الإنتاج، تصاعد الديون، وانفجار فجوة الثقة بين الفرد والنظام الاقتصادي.

إننا نعيش ما يمكن تسميته بـ”الكساد المُزمن”، الذي لا يطال الأرقام فقط، بل يفتك بأمل الإنسان في حياة كريمة.

وهم الوفرة

في ظاهر الأمور، تبدو الأسواق ممتلئة بالبضائع، والموانئ مزدحمة بالشحنات. لكن الواقع يقول: البضائع راكدة، والمستهلكون لا يملكون القدرة على الشراء. المنتجون يتكبدون الخسائر، ويتوقفون عن الإنتاج، فتتآكل فرص العمل، وتتسع دائرة الركود.

الناس يبذلون جهدًا لا يحقق عائدًا عادلًا. الضرائب تستقطع من دخولهم لتمويل إعانات العاطلين، بينما الأسعار تواصل الصعود بوتيرة تتجاوز نمو الأجور. النتيجة أن الاستهلاك يتقلص، والدول – لتلبية الحد الأدنى من احتياجاتها – تلجأ للاستيراد والاقتراض، مما يضاعف المديونية ويُفقد العملات المحلية قيمتها.

وهكذا، يتحوّل الاقتصاد إلى حلقة مفرغة، تُنتج الأزمات بدلًا من الحلول، وتُفقر الشعوب بدلًا من أن تُمكنها.

سياسات ترقيع لا إصلاح

في مواجهة هذا الانهيار التدريجي، لا تجد الحكومات إلا سياسات نقدية ومالية تقليدية، مثل رفع أسعار الفائدة أو تقليص الإنفاق. لكنها إجراءات تشبه من يُغلق نافذة هروب الماء بينما السقف ينهار.

رفع الفائدة يُقلل من السيولة، صحيح، لكنه يُثقل كاهل المستثمرين، ويُضيف تكاليف جديدة على المستهلك، فتتفاقم الأزمة بدلًا من أن تُعالج.

أما الحوافز المؤقتة فهي مجرد مسكنات، لا تعالج السبب الجذري: غياب الإنتاجية الكافية التي تُلبي احتياجات المجتمع وتُحرك عجلة النمو الحقيقي.

جوهر الحل: الإنتاجية من أجل الإنسان

لا ينبغي أن يكون الحل مرهونًا بزيادة عائدات النقد الأجنبي أو استخراج مزيد من الموارد الطبيعية، فهذه مسارات قصيرة النفس.

الحل الحقيقي يبدأ من إعادة الاعتبار للإنتاجية المجتمعية. أن نُمكّن الإنسان من العمل، وأن نُعيد ربط عناصر الإنتاج الأربعة: الأرض، رأس المال، العمل، والتنظيم في بيئة واحدة تتيح التكامل والاستجابة للطلب المحلي.

ما يحدث اليوم أن هذه العناصر موجودة فعلًا، لكنها مشتتة، لا ترى بعضها البعض، ولا تدرك أين يقع الطلب. حين يلتقي أصحاب رأس المال بالعمال، ويعرف المنتجون ما يحتاجه السوق، وتُدار العملية بروح تعاونية تكاملية، عندها فقط تبدأ دورة الإنتاج في الدوران من جديد.

ليس المطلوب أن نُلغِي الرأسمالية، بل أن نُعيد هندستها من الداخل؛ أن نُعيد توجيهها من خدمة رأس المال إلى خدمة الإنسان، ومن السعي نحو الأرباح المجردة إلى خلق قيمة حقيقية تُشبع الحاجات وتُعزز العدالة.

معجزة ممكنة

إن تجاوز هذا الكساد لا يحتاج إلى معجزة خارقة، بل إلى وعي جديد. إلى فهمٍ عميق بأن الاقتصاد ليس غاية بحد ذاته، بل وسيلة لصناعة الحياة.

حين نُطلق العنان للإنتاجية المجتمعية، ونُعيد بناء جسور الثقة بين عناصر الإنتاج، ونعيد تعريف “النجاح الاقتصادي” من جديد… عندها فقط، يمكننا أن نقول إننا بدأنا رحلة الخروج من الكساد الكبير.

ولعل في ذلك حماية لأجيال قادمة، لا تستحق أن ترث نظامًا منهكًا، بل تستحق أن ترث أملًا جديدًا… واقتصادًا إنسانيًا عادلًا.

الكساد
د. تامر ممتاز

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى