الدوحة… منصة ثقافية عربية صاعدة

بقلم: معمر اليافعي
ليست الدوحة مجرد عاصمة خليجية تتلألأ بناطحات السحاب ومشاريع العمران، بل هي قصة تُكتب بوعي مختلف، حيث الثقافة لا تأتي في الهامش، بل تُبنى كجسر رئيسي بين الحاضر والمستقبل. الدوحة اليوم ليست مدينة تبحث عن تعريف، بل منصة تسعى لتقديم نفسها كصوت عربي معاصر، يوازن بين الأصالة والحداثة، وبين الانفتاح على العالم والتمسك بالهوية.
حين تسير في شوارعها، تدرك أن هذه المدينة ليست مصنوعة من الإسمنت وحده، بل من حوار مفتوح مع التاريخ. فالمتاحف الكبرى، كمتحف الفن الإسلامي ومتحف قطر الوطني، ليست مجرد بنايات تُعرض فيها المقتنيات، بل روايات متجددة تحاول أن تشرح للعالم من نحن، وتُعيد ترتيب الأسئلة القديمة حول علاقتنا بالتراث والحضارة. إنها ليست ذاكرة جامدة، بل مختبر دائم يعيد تقديم التاريخ بلغة الحاضر.
الدوحة لا تقدم نفسها كمدينة عربية فحسب، بل كمنصة ثقافية عالمية. فهي تستضيف المؤتمرات والمنتديات والحوارات التي تجمع بين الشرق والغرب، وتفتح نوافذ للنقاش حول قضايا الفكر والهوية والسياسة والثقافة. ليست مجرد مكان يُستضاف فيه الآخرون، بل مساحة يتشكل فيها خطاب جديد، يرى في الثقافة قوة ناعمة قادرة على أن تمنح العرب موقعًا مختلفًا في المشهد العالمي.
ومع ذلك، فإن التحدي الأكبر أمام الدوحة لا يكمن في إنشاء البنية التحتية أو استضافة الفعاليات، بل في تحقيق توازن مستدام بين التسارع العمراني والحفاظ على جوهرها العربي الإسلامي. فالثقافة لا تُشترى بالمشاريع وحدها، بل تُبنى عبر الوعي، عبر المدارس والجامعات والمراكز الفكرية التي تُنشئ أجيالًا تحمل هذا المشروع وتواصل مسيرته. وهنا يبرز السؤال: هل تستطيع الدوحة أن تحافظ على روحها الخاصة وسط صخب الحداثة؟
من يتأمل التجربة القطرية يدرك أن الفرصة كبيرة، فالإمكانات المادية والمعنوية متوفرة لتكون منارة عربية في زمن يحتاج فيه العرب إلى من يعيد ترتيب المشهد الثقافي. لكنها تحتاج إلى تحويل هذه الإمكانات إلى مشروع متكامل يربط بين الثقافة والتعليم والاقتصاد والسياسة، ويجعل من كل مهرجان كتابًا مفتوحًا، ومن كل ندوة بذرةً تُثمر في الوعي الجمعي.
ما يميز الدوحة أنها لم تُسجن نفسها في حدود الإقليم، بل مدت أذرعها إلى العالم، محاولة أن تكون جسرًا بين الثقافات وصوتًا عربيًا يُحاور الآخر من موقع الندية لا التبعية. وهذه ميزة نادرة في زمن يميل فيه كثيرون إلى الانغلاق أو الذوبان.
لذلك، فإن مستقبل الدوحة الثقافي لا يقوم على تكرار تجارب المدن الأخرى، بل على صناعة تجربتها الخاصة؛ تجربة تقول إن الثقافة ليست زينة للمدن، بل عمودها الفقري، وأن المنصة الحقيقية ليست خشبة مسرح ولا جدران معرض، بل وعيٌ جمعي يؤمن بأن النهضة تبدأ من الكلمة، من الفكرة، من النغمة، من الكتاب، ومن الحكاية.
الدوحة ليست مدينة فحسب، بل رؤية. ومن يتابع مسيرتها اليوم، يدرك أنها تسير بخطى ثابتة لتكون أكثر من عاصمة سياسية أو اقتصادية؛ لتكون منصة ثقافية عربية صاعدة، تحمل رسالة مفادها أن العرب ما زالوا قادرين على إنتاج فكرٍ حيّ، وهويّةٍ واثقة، وصوتٍ يسمعه العالم بأسره.
من فلسفة ثروان: “الثقافة ليست حجرًا يُبنى… بل وعيًا يُدار. والمدينة التي تفهم ذلك، تتحول من عاصمة جغرافية إلى منصة كونية.”
ابن الحصن
كاتب وباحث عُماني مهتم بالفكر والهوية والفلسفة المعاصرة.
رئيس تحرير سابق لمجلة بيادر.
وصاحب تجربة طويلة في مجالات الإعلام والثقافة والتجارة.
مؤسس مشروع ثروان؛ رؤية ثقافية وتجارية تهدف إلى إحياء التراث الخليجي بروح عصرية، ووصل الماضي بالحاضر، واستثمار الهوية كقوة ناعمة في صناعة المستقبل.