
بقلم: سيلينا السعيد
يعود الخريف دائمًا كصحفيٍّ عريق يعرف كيف يفتتح مقالته بلمسةٍ ذهبية على أوراق الشجر. لا يقتحم المشهد صاخبًا مثل الصيف، ولا يأتي صارمًا مثل الشتاء، بل يتسلّل بهدوء، يغيّر الألوان، ويكتب بلغةٍ لا يتقنها إلا القلب. إنّه افتتاحية موسمية تُذكّرنا بأن كل شيء في هذا العالم زائل، وأن للجمال عمرًا قصيرًا، لكنه عميق في الذاكرة.
الخريف ليس مجرّد فصل، بل نصٌّ صحفي طويل تكتبه الأرض على صفحات الزمن، تزيّنه بالعناوين البارزة: الرحيل، والتحوّل، والدهشة.
الطبيعة حين تتحوّل إلى جريدةٍ ملوّنة
حين يبدأ الخريف، تتحوّل الغابات والحدائق إلى جريدةٍ يومية من الألوان: العنوان الرئيسي بالبرتقالي، العناوين الفرعية بالأصفر، والملاحظات الهامشية باللون البني. كل ورقة تسقط من شجرةٍ هي خبرٌ عاجل عن حياةٍ جديدة تبدأ، أو عن قصةٍ انتهت.
إنها لغة الطبيعة في أوج بلاغتها. الأوراق المتساقطة ليست موتًا، بل إعلانًا عن دورةٍ جديدة ستعود فيها الخضرة بعد حين. تمامًا كما يكتب الصحفي عن نهاية مرحلةٍ ما ليمهّد لولادة مرحلةٍ أخرى، كذلك تفعل الطبيعة في خريفها.
الخريف في المدينة: صحافة الأرصفة
في المدن، يأخذ الخريف شكلاً آخر. على الأرصفة المبلّلة برذاذ المطر، تسير الخطوات ببطء، كأن الناس يقرأون العناوين المعلّقة على جدران الوقت.
في المقاهي الصغيرة، تتجمع الأفئدة حول فناجين القهوة الساخنة، وتتبادل الصحبة الأخبار الداخلية لقلوبها: من أحبّ، ومن افترق، ومن ينتظر لقاءً مؤجلاً.
الأسواق أيضًا تكتب مقالها الخاص؛ برائحة الكلمنتين، وكاسات السحلب مع القرفة، والكستناء المشوية، والبطاطا الحلوة التي تتصاعد أبخرتها مثل سطورٍ ثائرة في زاويةٍ وجدانية.
الخريف في المدينة يذكّرنا دائمًا بأن الصحافة ليست في الجرائد فقط، بل في الروائح والأصوات والخطوات البطيئة.
الخريف في الريف: حكاية الحقول
في القرى والحقول، يكتب الخريف بلغة الحصاد. هو موسم جمع الغلّة وفرز حبوب القمح وامتلاء المخازن. إنه فصلٌ يجمع بين العرق والفرح، بين التعب والطمأنينة.
الفلاحون يعرفون أن الخريف ليس فقط لوحةً جمالية، بل وعدٌ بالخبز القادم، ورغيفٌ لن يخون الجائعين. وهنا يتحوّل الخريف إلى صحافة الناس البسطاء؛ عناوينه ليست سياسية ولا اقتصادية، بل إنسانية بامتياز: “الحياة تستمر، والأرض أمّنا جميعًا.”
أثر الخريف في النفس
من الناحية النفسية، يُعتبر الخريف أكثر الفصول دعوةً إلى التأمل. إنه الفصل الذي يضعنا وجهًا لوجه أمام فكرة الفقدان، لكنه لا يتركنا في الحزن، بل يعلّمنا أن الفقد ليس إلا محطةً في الطريق.
يقول علماء النفس إن الخريف قد يُثير بعض الكآبة بسبب تغيّر ضوء الشمس وتقلّص ساعات النهار، لكن الشعراء يرون فيه فرصةً للغوص إلى الداخل، لاكتشاف الأعماق التي يغطيها صخب الصيف وضجيجه.
هو موسم الحوارات الداخلية، موسم كتابة المذكرات، وفتح الأدراج القديمة للذاكرة.
الخريف في الشعر والفن
لا يوجد شاعر لم يتأثّر بالخريف. جلال الدين الرومي كتب عن دورة الطبيعة كرمزٍ لدورة الروح، والمتنبي مرّر عبر أوراق الخريف استعاراتٍ عن العمر، بينما في الأدب الغربي نجد شكسبير يصف الخريف كأغنية الوداع العذبة، كما غنّى خوليو إغليسياس أغنيته الدافئة عن سبتمبر.
الفنانون التشكيليون رسموا لوحاتهم الأجمل في هذا الفصل، حيث الألوان الناضجة والخطوط المتكسّرة تعكس نضج التجربة الإنسانية. والموسيقيون كتبوا مقطوعاتٍ خريفية تُعزف على أوتار الشجن، مثل سيمفونية فيفالدي “الخريف” التي تمزج بين الفرح والوداع.
الخريف كرسالة إنسانية
الخريف ليس مجرد حالةٍ طبيعية، بل درسٌ إنساني عميق. يقول لنا: “لا تتمسّك بما يرحل، بل استمتع بما هو موجود الآن.”
الأوراق التي تسقط لم تكن خطأً، بل كانت ضرورة ليستمر الجذع في الحياة.
إنها رسالة تصلح أن تكون افتتاحية صحيفةٍ إنسانية عالمية: “الحياة دورات، والوداع ليس النهاية، بل بداية أخرى.”
الخريف في عيون طفل
تخيّلوا طفلًا يركض بين الأوراق المتساقطة، يظنها ألعابًا أعدّتها له الأرض خصيصًا. بالنسبة له، الخريف ليس فلسفة ولا مقالًا، بل مسرحٌ كبير يلعب فيه ويضحك.
وهنا يكمن سرّ هذا الفصل: أن يحمل لكل جيلٍ معنى مختلفًا، ولكل عينٍ حكاية أخرى.
الخاتمة: المقال الذي لا ينتهي
في النهاية، يبقى الخريف مقالًا مفتوحًا لا تنتهي سطوره. يكتب في الطبيعة كما يكتب في أرواحنا. هو فصل الانتقال والوداع الجميل، فصل الإدراك أن الزمن لا يعود، لكنه دائمًا يقدّم لنا فرصةً جديدة.
يهمس لنا الخريف همساتِ صحفيٍّ قديمٍ يعرف قيمة الكلمة؛ يكتب بصدقٍ، بلا مبالغةٍ ولا تزييف. أوراقه العنوان، مطره الهامش، ونسيمه الختام، ويترك دائمًا مكانًا فارغًا لنا، نحن القرّاء، لنكتب ملاحظاتنا الخاصة على هامشه.