آراء

الحماية الاجتماعية… حين ينتصر النصّ على الإنسان (3)

بقلم : معمر اليافعي

Advertisement

في الوقت الذي تؤكد فيه الدول الحديثة أن الإنسان هو محور التنمية وغايتها، وأن استقرار المجتمع يبدأ من حماية أفراده في لحظات الضعف، تبرز في بعض منظومات الحماية الاجتماعية ثغرات لا يمكن تجاهلها. ليست هذه الثغرات بسيطة، بل لأنها تمس جوهر العدالة، وتضع الإنسان في مواجهة نصوص لا تعكس واقعه الحقيقي.

الحماية الاجتماعية، في أصل فكرتها، لم تُنشأ لتكون اختبارًا إداريًا للقدرة على استيفاء الشروط، بل لتكون شبكة أمان تحمي الإنسان حين تتعثر به الحياة. غير أن بعض الشروط، حين تُطبّق بمعزل عن السياق القانوني والاجتماعي، تتحول من أدوات حماية إلى أسباب إقصاء، ومن ضمانات أمان إلى مصادر ضغط إضافي على الأسر.

Advertisement

من أبرز هذه الإشكاليات استبعاد الرجل المتزوج الذي فقد عمله أو تعثرت ظروفه من الدعم الاجتماعي بحجة أن زوجته تعمل. هكذا، وببساطة إدارية، يُختزل واقع أسرة كاملة في خانة واحدة: “دخل الزوجة”. وكأن هذا الدخل — مهما كان محدودًا — يُعيد تعريف المسؤوليات الأسرية، ويُسقط الحاجة، ويُنهي حق الحماية.

وهنا يبرز التناقض الجوهري. فالقانون، المستند إلى الشريعة، يقرّ بوضوح أن النفقة مسؤولية الرجل، وأن الزوجة غير مُلزَمة بالإنفاق على الزوج أو الأبناء، حتى وإن كانت ذات دخل. هذا المبدأ ليس تفصيلًا فقهيًا، بل قاعدة قانونية تُطبّق يوميًا في المحاكم. فإذا حدث خلاف أسري وأُحيل إلى القضاء، يُلزم الرجل بالنفقة، ولا يُعتد براتب الزوجة كسبب للإعفاء.

لكن المفارقة المؤلمة أن هذا الراتب نفسه يتحول، في منظومة الحماية الاجتماعية، إلى سبب مباشر لحرمان الرجل من الدعم. وهكذا يجد المواطن نفسه عالقًا بين مسارين: مسار يُلزمه بكل شيء، ومسار يحجبه عن كل شيء، اعتمادًا على معيار واحد لا يتسق مع أي منطق قانوني أو اجتماعي.

هذه ليست مسألة إدارية عابرة، بل مفارقة تشريعية تمس العدالة في جوهرها. فكيف يُحاسَب الإنسان على مالٍ لا يملكه قانونًا؟ وكيف يُحرَم من الحماية اعتمادًا على دخل لا يترتب عليه التزام؟ وكيف يمكن لمنظومة واحدة أن تُطالب الرجل بتحمل المسؤولية كاملة، ثم تُقصيه من الدعم بحجة أن غيره يملك دخلًا؟

تتضاعف خطورة هذه الإشكالية حين ننظر إلى الفئة العمرية التي تتأثر بها. رجال تجاوزوا الأربعين أو الخمسين، فقدوا أعمالهم بعد سنوات طويلة من العطاء، تتراجع فرصهم في سوق العمل، وتتراكم عليهم الديون، وتزداد التحديات الصحية والنفسية. هؤلاء لا يطلبون امتيازًا، بل حماية مؤقتة تحفظ كرامتهم وتمنع انهيار أسرهم. ومع ذلك، يُواجهون العبارة ذاتها: “غير مستحق… لأن الزوجة تعمل”.

هذا الاختزال لا يقرأ الواقع، ولا يفهم طبيعة الأسرة، ولا يراعي التزامات الحياة الفعلية. فالأسرة ليست معادلة حسابية، ولا يُقاس استقرارها بجمع الرواتب، بل بقدرتها الحقيقية على العيش بكرامة. وراتب الزوجة، مهما كان، لا يمكن أن يتحول إلى بديل غير معلن عن دور الدولة في الحماية، ولا إلى ذريعة لإسقاط آخر مظلة أمان عن أسرة تمر بمرحلة هشّة.

إن مراجعة هذا الشرط ليست مطلبًا فئويًا، ولا دعوة للتوسّع في الصرف، بل ضرورة عدالية تفرضها روح القانون قبل نصه. فالحماية الاجتماعية وُجدت لحماية الإنسان حين يسقط، لا لمحاسبته على تفاصيل خارجة عن إرادته، ولا لإبقائه في منطقة رمادية بين الإلزام والحرمان.

الدول القوية لا تخشى مراجعة أنظمتها، بل تفعل ذلك حفاظًا على استقرارها. والعدالة الحقيقية لا تُقاس بصرامة النصوص، بل بقدرتها على حماية الإنسان الذي وُضعت من أجله. وإعادة النظر في هذا البند تحديدًا ليست تراجعًا، بل تقدمًا نحو منظومة أكثر اتساقًا، وأكثر إنصافًا، وأكثر قدرة على أداء دورها الحقيقي.

فالوطن الذي لا يترك أبناءه حين يضعف العمر وتشتد الظروف، هو وطن يحمي نفسه قبل أن يحميهم. والحماية الاجتماعية، إن لم تُنقَذ من تناقضاتها، تفقد معناها الأول: أن لا يبقى أحد خارج دائرة الأمان.

معمر حسين اليافعي (ابن الحصن)

كاتب وباحث عُماني مهتم بالفكر، الهوية، والفلسفة المعاصرة.

رئيس تحرير سابق لمجلة بيادر.

صاحب تجربة طويلة في الإعلام، والثقافة، والتجارة.

مؤسس مشروع ثروان؛ رؤية ثقافية وتجارية تهدف إلى إحياء التراث الخليجي بروح عصرية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى