آراء

الحكاية الشفوية… كيف نخسر الذاكرة إذا لم نوثقها؟

بقلم: معمر اليافعي

Advertisement

في كل أرضٍ تعيش ذاكرة، لكنها ليست دائمًا مكتوبة. فهناك حكايات تولد في المجالس، وتنمو على ألسنة الجدات والبحّارة والرعاة، لتتحوّل إلى شريان يغذي الهوية بالحياة. إنها الحكاية الشفوية؛ فنٌّ لا يحتاج إلى ورق ولا قلم، يكفي فيه صوت يتردّد، وأذن تصغي، وقلب يحفظ.

في ظفار، حيث البحر يروي قصصه للجبال، وحيث الجبال تعكس صدى الأرواح في السهول، كانت الحكاية الشفوية دومًا جزءًا من هوية الناس. من قصص الرحلات البحرية التي حملت اللبان إلى أقاصي الأرض، إلى أساطير الجان التي سكنت الكهوف والوديان، إلى قصائد الشاعر الشعبي الذي لا يملك ديوانًا مطبوعًا، لكنه يمتلك قلوب السامعين… كلها ذاكرة حيّة.

Advertisement

لكن السؤال: ماذا يحدث لهذه الذاكرة إذا لم نوثقها؟ هل تبقى حية أم تتلاشى مثل الضباب حين تشرق الشمس؟

ما يهدد الحكاية الشفوية اليوم ليس الزمن وحده، بل التغير السريع في أنماط الحياة. الأجيال الجديدة لم تعد تجلس طويلًا في مجالس السمر، ولم تعد تستمع للحكواتي الذي كان يسهر مع القهوة والنار. الهواتف الذكية أخذت مكان المجالس، والفيديوهات القصيرة حلت محل القصة الطويلة، وتحولت الذاكرة إلى بيانات متناثرة. وفي هذا التحول، نخسر شيئًا عميقًا: روح المكان.

الحكاية الشفوية ليست مجرد تسلية، بل هي أرشيف غير مكتوب. تنقل أسماء الأماكن، وتوضح أصول العادات، وتحمل في طياتها الحكم الشعبية والرموز التي لا نجدها في الكتب الرسمية. هي التاريخ الموازي الذي لا تسجّله الأقلام، لكنه يعيش في الصدور. فإذا مات آخر من يرويها، تموت معه ذاكرة لا يمكن استعادتها.

في بلدان كثيرة، أدركوا قيمة هذه الذاكرة. المغرب وثّقت حكاياتها الشعبية وجعلتها جزءًا من مناهج الأدب والفنون. الهند أنشأت مراكز للحكاية الشفوية تُدرّس فيها الأساطير المحلية كجزء من الهوية. وحتى بعض الدول الأوروبية، رغم تقدمها العلمي، فتحت أرشيفات رقمية لتسجيل أصوات كبار السن، حفاظًا على القصص التي صنعت الروح الجمعية.

أما نحن، فما زلنا نعيش في زمن التردّد. لدينا آلاف القصص الشعبية، من ملاحم البحر إلى رقصات البرعة، من أمثال البدو إلى أناشيد الصيادين، لكنها مهددة بالاندثار. ليس لأنها بلا قيمة، بل لأننا لم نمنحها ما تستحق من التوثيق والبحث.

تخيّل لو أن مركزًا أكاديميًا للفنون الظفارية أنشئ، كما دعونا سابقًا، وأضيف إليه قسم خاص بالحكاية الشفوية. قسم يجمع الشيوخ والرواة، يسجل قصصهم بالصوت والصورة، يحفظها في مكتبات رقمية، ويحوّلها إلى مادة تعليمية للأجيال القادمة. قسم يعيد كتابة هذه الحكايات في كتب للأطفال، وفي مناهج المدارس، وفي أفلام وثائقية تعرّف العالم بظفار وهويتها.

الحكاية الشفوية ليست ملكًا للماضي وحده، بل يمكن أن تكون صناعة للمستقبل. يمكن أن تتحوّل إلى مصدر للإلهام الأدبي والفني، وإلى مادة اقتصادية من خلال السياحة الثقافية. فكم من السياح يزورون بلادًا أخرى ليعيشوا تجربة “القصص المحلية” في مسرح أو عرض حي؟ وكم من كاتب عالمي استلهم روايته من حكايةٍ تناقلها الفلاحون أو البحارة؟

إذا لم نُسابق الزمن، فإننا سنخسر. سنخسر الذاكرة التي لا تُشترى بالمال، وسنخسر تلك الجذور التي تجعلنا مختلفين في عالم يميل إلى النسخ والتكرار. وربما يأتي يوم نسأل فيه: ماذا كنا نقول في أمسياتنا؟ كيف كنّا نفسّر المطر؟ ماذا كانت الحكاية التي تُقال للأطفال قبل النوم؟ ولن نجد جوابًا إلا في صمت الحجارة.

من هنا، فإن حماية الحكاية الشفوية ليست ترفًا، بل ضرورة وجودية. من دونها نصبح شعبًا بلا ذاكرة، ومن دون الذاكرة نصبح مجرد تجمعات سكانية بلا روح. وإذا كانت الهوية هي ما يبقى حين يتغيّر كل شيء، فإن الحكاية الشفوية هي الوعاء الأعمق لهذه الهوية.

من تأملات ثروان:

“حين تسكت آخر الحكايات الشفوية، لن نصبح بلا تاريخ… بل بلا روح.”

معمر حسين عبداللاه اليافعي (ابن الحصن)

كاتب وباحث عُماني مهتم بالفكر والهوية والفلسفة المعاصرة.

رئيس تحرير سابق لمجلة بيادر.

صاحب تجربة طويلة في الإعلام والثقافة والتجارة.

مؤسس مشروع ثروان؛ رؤية ثقافية وتجارية تهدف إلى إحياء التراث الخليجي بروح عصرية، ووصل الماضي بالحاضر، واستثمار الهوية كقوة ناعمة في صناعة المستقبل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى