الجنبية في اليمن : بين التراث والمكانة الاجتماعية

بقلم : السفير أشرف عقل
تُعدُّ الجنبية التي يعتاد اليمنيون حملها على جوانبهم جزءاً لا يتجزأ من هويتهم الثقافية ، إذ تظل مصاحبة لهم طوال حياتهم ، وتعتبر من أبرز زينة الرجال اليمنيين. إنها رمز للبراعة في صناعة الحديد والصلب ، التي تميز بها اليمنيون على مر العصور ، وخاصة في صناعة الأسلحة والسيوف.
تكمن قيمة الجنبية في المقبض الذي يتنوع بشكل مذهل ، حيث يُصنع من مواد فاخرة مثل الفضة والخشب والعاج ، وأحياناً من حوافر الجمال أو قرون الوعول والزراف ، لكن أرقى وأغلى المقبض هو الذي يصنع من العقيق أو قرن وحيد القرن “الكركدن”، الذي يُصاب بنقاء مذهل نتيجة لدهنه بالزيت بشكل مستمر ، ليصبح في نهاية المطاف شفافاً كالبللور. عند هذه المرحلة ، يستحق المقبض لقب “الصيفاني”، وقد يصل ثمنه إلى ملايين الريالات.
تتميز معظم الجنابي اليمنية بوجود دائرتين معدنيتين على المقبض ، غالباً ما تكونان من الحديد ، وأحياناً من الذهب أو الفضة. بين المقبض والنصل ، يوجد شريط زخرفي فضي يُسمى “المبسم” ، بينما يضم النصل الحديدي المصقول خطاً مجوفاً يسمح بتسلل الهواء داخل الجرح لضمان تسممه. أما الغمد أو العسيب ، فيصنع عادة من خشب البرقوق أو العنبرود ، أو من خشب الصنوبر ، وهو مغلف بالجلد الملتف بحبال دقيقة. يتم تثبيت الغمد على حزام من الجلد الخالص الذي يُزيَّن بتشكيلات فضية أو مطلية بالذهب على شكل هلال أو محفظة أو أشكال أخرى ، فيما يتم تطريزه بشكل يدوي بعناية فائقة على يد النساء.
تتنوع أنواع الجنابي اليمنية بحسب شكلها ، مثل : “القديمي”، و”القصبي”، و”الحسينى”، و”القبلى”، وكل نوع يحمل خصائصه الفريدة. لكن الجنبية ليست مجرد أداة زخرفية أو سلاح ، بل هي رمز اجتماعي عميق. يعتبرها اليمنيون جزءاً من كرامتهم ورجولتهم ، بل لا يخلعونها حتى أثناء أداء الصلاة. يُشترط ارتداؤها وفق الأعراف القبلية التي تحدد طريقة استخدامها ومكانتها الاجتماعية.
الجنبية اليمنية تعود جذورها إلى العصور القديمة ، فقد ارتداها السبئيون في عهد الدولة الحميرية ، كما يظهر في التماثيل والنقوش التاريخية ، مثل تمثال الملك معديكرب في المتحف الوطني بصنعاء. وتزدان مقابض الجنابي اليمنية القديمة بالنقود الحميرية ، مما يعكس تاريخها العريق.
تُورَّث الجنابي الجيدة من جيل إلى آخر ، ولا يبيعها اليمنيون حتى في أحلك الظروف ، بل يفاخرون بها ويتناقلونها كرموز للكرامة والمكانة الاجتماعية. وقد خصصت بعض العائلات في حضرموت لصناعة الجنابي الراقية ، إذ لا يصنعون أكثر من واحدة أو اثنتين في العام ، حفاظاً على دقة العمل وسمعة الجنبية. بعض الجنابي القديمة ، مثل جنبية الإمام شرف الدين ، أحد أئمة اليمن في القرن السادس الهجري ، تكتسب قيمة تاريخية وتظل محفوظة كإرث عائلي ثمين.
وفي اليمن ، يمكن للخبراء معرفة الكثير عن الشخص من خلال تفاصيل جنبيته ، حيث يرتبط نقش حزام الجنبية واتجاه وضعها على الخصر بالمكانة الاجتماعية لصاحبها. فبينما يضع القبيلي جنبيته بشكل عمودي على الخصر ، يضعها القضاة والسادة مائلة إلى اليمين أو اليسار.
عند الحديث عن الجنبية ، لا يمكن تجاهل ارتباطها بالشعر والنثر اليمني. فقد كان الشعراء ، مثل عنترة بن شداد ، يقارنون الجنبية بجمال المرأة ، وتُشَبَّه دقة خصرها ومشيتها بتفاصيل الجنبية. كما أن الجنبية تُستخدم بشكل مميز في رقصة البرع الصنعانية ، حيث يلوح الراقصون بها بأيدهم أثناء العزف على الطبول في الأعراس والمناسبات.
وفي النهاية ، تبقى الجنبية ، بالنسبة لليمني ، أكثر من مجرد سلاح أو زينة؛ فهي جزء من تقاليد المجتمع وثقافته ، ورمز من رموز الرجولة والشرف ، وحين “تخرج الجنبية من غمدها ، لا يجوز أن تعود دون دم”.