GreatOffer
آراء

التحدي الأكبر لهُوياتنا

بقلم : د. صالح الفهدي

Advertisement GreatOffer

أثناء تجوالي في أحد المعارض الثقافية المقامة في إحدى الجامعات ، قالت الطالبة الجامعية وهي تشرح : إن أبرز تحديات الهوية هو العولمة ، فلما انتهت ، قلت لها : أبرز تحديات الهوية هو نحن ، وما يتعلق بنا من أفكار وردات فعل نحو هوياتنا.

يرى المفكر «زيجمونت باومان» في كتابه الحداثة السائلة (Liquid Modernity) أن العولمة تخلق «هوية سائلة» ، حيث يجد الأفراد أنفسهم في حالة دائمة من التغيير وعدم الاستقرار ، مما يجعل الحفاظ على الهوية المحلية صعبا في ظل الانفتاح الثقافي والتكنولوجي المتسارع.

Advertisement

إنما يبقى التحدي الأكبر ليس ما نتلقاه وإنما ما نكون عليه نحن من فهم وإدراك وقدرة على إبداء ردة فعل تنتصر لهويتنا ، وهنا أستحضر مقولة المهاتما غاندي : «إنني لا أريد أن ترتفع الجدران من كل جانب حول بيتي ، ولا أن يحكم إغلاق نوافذي ، إنني أريد أن تهب ثقافة كل أرض حول بيتي بأقصى قدر من الحرية ، لكنني أرفض أن تقتلعني ريح أي منها من جذوري» ، فقد رحب برياح الثقافات أن تدخل بيته ، لكنه – في المقابل – يمتلك القدرة على رفض أن تقتلعه هذه الرياح من جذوره.

وأقول : نعم، نحن أنفسنا -في الحقيقة- نشكل تحديا لهويتنا الذاتية ، لأن الهوية ليست قالبا ثابتا أو موروثا بالكامل ، بل هي عملية مستمرة من التشكل والتفاعل مع العالم ، بيد أننا قد نكون نحن سببا مهددا لهويتنا وذلك من عدة جوانب:

أولاً : ما يتعلق بالصراع الداخلي بين القيم المتوارثة والقيم المكتسبة ، حيث إننا نعيش في بيئات تتغير باستمرار ، وهو ما يجعلنا معرضين لمواجهة أفكار ومعتقدات جديدة قد تتعارض مع ما نشأنا عليه؛ هذا الصراع الداخلي بين الماضي والحاضر ، بين التقاليد والتحديث ، قد يجعلنا في حالة ارتباك بشأن من نكون وما الذي نؤمن به حقا ، وهنا تبرز ردود أفعال مختلفة بين الانفتاح غير المنضبط ، والانغلاق غير المحمود ، والتوسط الوازن بينهما.

ثانياً : السعي لإرضاء الآخرين على حساب الذات؛ ففي كثير من الأحيان ، نحاول تشكيل هويتنا بناء على توقعات المجتمع أو العائلة أو الأصدقاء أو حتى الآخر الافتراضي أو الأجنبي الذي لا يعنيه أمرنا ، مما يجعلنا نتنازل عن قيم تشكل هويتنا الذاتية لصالح التكيف مع ما يريده الآخرون ، وهذا ما قد يؤدي إلى شعورنا بعدم الاتزان ، والثبات.

ثالثاً : الاستسلام لصورة الذات السلبية؛ حيث نحصر أنفسنا داخل قوالب فكرية تقلل من قيمتنا أو تجعلنا نشكك في إمكانياتنا. وهذه الصورة الأكثر سطوعا حيث يفضل كثيرون على سبيل المثال اللغة الإنجليزية في تحدثهم على العربية لغتهم الأم ، ورفع لافتات تجارية بأسماء أجنبية في بلد عربي ، وتفضيل اللباس الأجنبي على العربي ، وذلك ما ينسجم مع مقولة ابن خلدون : «ترى المغلوب يتشبه أبدا بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه في اتخاذها وأشكالها بل وفي سائر أحواله وانظر ذلك في الأبناء مع آبائهم كيف تجدهم متشبهين بهم دائما وما ذلك إلا لاعتقادهم الكمال فيهم».

رابعاً : الخوف من التغيير والتطور ، فالهوية ليست ثابتة ، بل تنمو وتتطور مع الزمن ، بيد أن شعور بعضنا بأن علينا أن نتمسك بكل ما هو موروث دون تطوير أو تغيير يحد من قدراتنا في التغيير والتجديد ، ومعلوم أن «ما لا يتجدد يتبدد» لذلك نسيء إلى هويتنا من حيث نظن أننا نحسن إليها.

خامساً : التناقض بين القيم الشخصية والسلوك الفعلي فنحن ورغم ما نؤمن به من قيم مدعومة عقائديا ، ومؤصلة تأصيلا روحانيا إلا أننا ولأسباب مختلفة لا ننسجم وفقها أثناء السلوك الفعلي ، والتطبيق العملي ، وهذا ما ولد الازدواجية في مجتمعاتنا.

سادساً : الانغماس في العالم الافتراضي وفقدان الهوية الواقعية ، فثورة التواصل الاجتماعي ، وما شهدته من تنوع وسائلها أشعر البعض بأنه يعيش حياة مزدوجة غير واضحة المعالم ، إذ قد يظهرون بصورة معينة في هذه الوسائل في حين يعيشون حياة واقعية مختلفة، أو أن كثرة متابعتهم لبعض «المشاهير» ومظاهر البذخ في حياتهم، يصيبهم بعدم الاتزان في حياتهم مما يؤدي إلى ظهور أزمة في هوياتهم الذاتية.

إذن نحن بحاجة إلى أن نتغلب على التحدي الناشئ من أنفسنا قبل العوامل الخارجية الأخرى كالعولمة وغيرها وذلك بعدة خطوات:

أولاً : أن نعي ونفهم أنفسنا ونحدد ما نؤمن به من قيم تشكل هويتنا الذاتية ، فهذا الوعي والوعي يساعدنا على فهم قيمنا وانفعالاتنا وعواطفنا وأفكارنا. إن تشكيل هذا الوعي والفهم يحتاج إلى تعميق انتماءاتنا الفكرية والاجتماعية والتاريخية بثقافتنا الأصيلة.

ثانياً : أن نخلق توازنا يتوافق بين ما نشأنا عليه وما نتطلع إليه فهذا سيعيننا على عدم الانجرار وراء تيار الانفتاح غير المنضبط ولا النكوص إلى الوراء.

ثالثاً : وعينا بأن الهوية متغيرة عبر الزمن ، ولكن الثوابت الأصيلة هي روح الهوية وهي ما يجب أن نحافظ على بقائه.

الشاهد من ذلك بأننا نحن الذين نشكل التحدي الأكبر لهويتنا فلا أحد باستطاعته أن يفرض علينا ما لا نقبله ، وأضرب على ذلك مثالا بالأقليات الإثنية التي تعيش في بلدان مختلفة عنها استطاعت أن تكون بيئات مستقلة عن المجتمعات التي تعيش وسطها ، وذلك لأنها قررت أن تتنصر على هويتها ، ورفضت الذوبان في هويات غريبة.

لا شك بأننا اليوم أحوج للانتصار لهوياتنا في ظل محاولات مستميتة لتنميطنا ، وإعادة تشكيل هوياتنا ، لهذا لا يجب أن نلتفت إلى عوامل خارجية وننسى العامل الأكبر الذي يشكل التهديد الأعظم لهويتنا وهو «نحن»!.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى