الأخلاق فى مصر القديمة
بقلم : السفير أشرف عقل
إذا استعرضنا الحكمة والنصيحة فى مصر القديمة ، فسوف نلمس مدى الذوق الرفيع عند المصرى القديم وأثر ذلك فى سلوكه ومعاملاته.
ومازالت هذه الحكم والنصائح من أحب الأشياء إلى قلوب الشعوب ، كما تحتل مكانة مهمة بين كتب القدماء لأنها اشتملت على دراسة قيمة وخلاصة تجارب الحياة ، حيث ترسم لهم طريق السعادة ، وتضع بين أيديهم المثل العليا لكل من يريد النجاح فى الدنيا والآخرة ، وتنظم الصلات بين الناس بعضهم البعض ، وتضع لهم طريقا مفروشا بالنور لكى يضيء لهم حياتهم.
وكانت هذه الحكم والنصائح التى تحكم الذوق الرفيع عند المصرى القديم من أحب الأشياء إلى قلوب المصريين فى جميع أطوار حياتهم ومعاملاتهم وتاريخهم ، يكتبها الحكماء فى أغلب الحالات على لسان أب ينصح ابنه ويرشده إلى حسن السلوك حتى يصل إلى أعلى المراتب.
وقد وصل إلينا أكثر من نص من بردية “نصائح بتاح حتب” أقدمها من الأسرة الثانية عشرة أى بعد موت مؤلفها بحوالى ستمائة عام ، والنسخة الكاملة من هذه البردية موجودة حاليا فى متحف اللوفر بباريس ، وهناك أيضا بردية أخرى فى المتحف البريطانى وهى من عهد الدولة الحديثة.
وقد تضمنت النقوش ومدارج البردى التى عثر عليها نصائح ملوك وحكام مصر القديمة التى كانت تحض النشء على الرفق وحسن المعاملة ، وحفظ حقوق الغير ، وعدم العبث بحاجات الناس ، ومن ذلك نعلم أن الشفقة عرفت الطريق إلى قلوب هؤلاء القوم ، فما كانوا يقتلون الناس ظلما وعدوانا ، وما كانوا يجلدون العبيد كما يتوهم البعض.
وكان للدين سلطان كبير نافذ على عقولهم ، فكان يدعوهم إلى التدين والتقوى والصلاح والإحسان إلى الغير والعمل الصالح ، وكانوا يرفعون شعار عمل الخير ، ومد يد المعونة لغير القادر ، إذ اعتقدوا أن الإنسان لا يمكنه الوصول إلى جنات الخلد فى السماء إلا إذا أظهر أثناء الحساب وعند وزن القلب ، أن روحه طاهرة نقية ، وأنه لم يأت شراً ولا إثماً ، ولم يسبب فى حياته ضرراً أو قسوة لأحد من الناس ، وأن صفحة أيام حياته على الدنيا كانت ناصعة البياض خالية من الآثام والسيئات ، وأنه لم يعتد على أحد ، ولم يتدخل فى شئون الغير.
وتظهر العديد من النصوص ، التى ترجع إلى عصور مختلفة ، ما كان عليه قدماء المصريين من شفقة ولين ورفق ، مما لم يحدثنا به التاريخ عن أمة سبقتهم أو كانت معاصرة لهم ، فهم الذين وضعوا أسس المدنية والتشريع فى العالم الذى سار فى إثرهم فى الرقى والتحضر ، واقتفى خطواتهم فى المدنية والحضارة.
ومن أمثلة ذلك نص يقول : “لم ارتكب إثما ضد الرجال ، ولم يشعر أحد بالجوع ، ولم أسبب بكاء أحد ، وما أمرت بقتل نفس ، ولا ارتكبت جريمة القتل بنفسى ، ولم أسرق أى شخص ، وما جعلت الناس تخافنى ، ولم أكن جباراً عاتياً ، ولم أكن قاسياً ، فكنت أمد الجائع بالخبز ، وأروى العطشان بالماء ، وكنت أكسى العراة”.
كما كان اعتقاد المصريين القدماء فى الحياة بعد الموت فى القبر ، أكبر وازع لهم لعمل الخير وطهارة الذمة ، فقد تخيلوا أن روح الإنسان تحل بالقبر بعد وفاته ، ولا يكون الإحسان والرحمة إليه إلا إذا كان المتوفى قد أحسن فى حياته معاملة الناس والتقرب إليهم بالإحسان والشفقة والخير ، حتى إذا ما توفى حفظ لنفسه ذكرى طيبة ، فيذكر دائما بالخير والترحم عليه ، والصلاة لروحه فيعيش سعيدا فى آخرته.
وما أكثر ما تركه لنا أجدادنا المصريين القدماء من قبيل تلك النقوش والكتابات على جدران المعابد والقبور ، مما يدل على أنهم لم يتسببوا فى ضرر أحد ، وكأنهم قد خلفوها وراءهم لنسير بما قد جاء فيها من حكم ونصائح تشمل كافة التعاملات سواء فيما بين البشر بعضهم البعض ، أو بين البشر والمخلوقات الأخرى من طير وحيوان ونبات.
فما أحوجنا فى هذه الأيام العصيبة التى تحفل بكل ماهو غريب ومستهجن من سلوكيات ، وكذلك الانحدار الملحوظ فى الأخلاقيات ، إلى الإقبال على هذه الحكم والنصائح بنفوس راضية سواء أكانت مما جاءت به الأديان السماوية ، أو ما ورد فى كتابات القدماء لأنها تكشف لنا عما فى قرارة النفس البشرية ، فيجب علينا أن نقرأها ، ثم نقف قليلاً لنتدبرها ونتأكد من صداها فى نفوسنا ، ثم العمل بها ، إذ إنه فى كثير من الأحوال مانجد أنه مهما بعدت الشقة والزمان بيننا وبين زمن كتابتها ، إلا أننا مازلنا فى حاجة إليها ، والتعلم منها ، لعل الله يكشف عنا الغمة ويحفظ بلادنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن ، إنه ولى ذلك والقادر عليه.