إغتيال السادات .. وذكريات الحرب و السلام
بقلم السفير : مدحت القاضي
(1) زي النهاردة عام 1981 كُنت أعبر سُوَر برلين العازل بين الألمانيتين بسيارتي من برلين الشرقية الي برلين الغربية (بعد وصولي من مقر عملي وإقامتي في وارسو في مهمتي الشهرية التقليدية) ، وذلك عبر سُوَر برلين الشهير من خلال المعبر المعروف بـ [شارلي] والمُخصص للدبلوماسيين..
(2) وكان برفقتي هذه المرة اللواء (المرحوم) فتحي عباس المُلحق العسكري بسفارتنا في بولندا ، وكانت الساعة قد جاوزت الثانية ظُهراً بدقائق ، ولما تجاوزنا الخط الألماني الشرقي وعبرنا المنطقة العازلة ، وعند وصولنا الي الخط الألماني الغربي ، فوجئت بضباط وجنود النقطة الألمان بمجرد التعرف عليَ كعادتهم يشوحون بأيديهم ويطلبون مٌني التوقف (رغم معرفتهم بي وبالسيارة) وتقدم رئيسهم هذه المرة نحوي ليقول لي بصوت عالِ وفِي هلع Sadat has been shot ..
(3) وقبل أن أسأله ، إستكمل حديثه بأنهم علموا الآن بالخبر عبر رسالة بالراديو وصلتهم في القاعدة العسكرية ، ولما سألت الألماني عن ما هو الفاعل وعن حجم إصابة السادات ، كان رده أنه لا أحد يعلم حالياً..
(4) ووسط صدمتي أنا واللواء فتحي ، قررنا أن نعود أدراجنا فوراً بالسيارة الي برلين الشرقية ، وبعد أقل من عشر دقائق كُنا في دار سكن السفير (المرحوم) صلاح أبو جبل ، والذي فاجأناه بالخبر! ، وأمضينا معه باقي اليوم بكامله..
(5) وبدأنا إتصالاتنا ببعض القنوات في القاهرة ، وسرعان ما تأكدنا من وفاة السادات ، رغم عدم الإعلان الرسمي ، ولاحظ (المرحوم) اللواء فتحي وقتها أنني أعيش لحظة قلق وتوتر داخلي ، وسرعان ما عرف السبب عندما إهتممت بالسؤال عن ما أصاب بعض الشخصيات الموجودة بالمنصة وخصوصاً شقيقي محمد (المرحوم ضابط الشُرطة) والذي كان وقتها يعمل الحارس الشخصي لسيد مرعي ، وجاءني الرد وحمدت الله بأنه لم يكن موجوداً في المنصة ، وحدث تبديل بينه وبين الحارس البديل وقد حل محله وهو بخير أيضاً..
(6) ودخلت أنا واللواء فتحي في نقاش مازلت أتذكره: عن من يٌمكن أن يكون وراء هذه الجريمة من داخل مصر ، ومن خارج مصر ، ومن المُستفيد ، ومن يكون خلف تلك الآيادي المصرية الموصومة بإقتراف الجريمة ، وما كان من شواهد إختراق الجبهة المصرية ، و….
(7) وفِي ضوء ما سبق؛ وجدت نفسي أنساق في النهاية الي قناعة – لم تبارحني حتي اليوم! – وهي أن الحقيقة لن تظهر [كاملة] في جريمة إغتيال السادات ، ….
(8) ورُحنا ليلتها نستعيد ذكرياتنا (سواء المُشتركة أو كُلاً علي حِده) عن جوانب تجربة الثلاث سنوات التي مضت وأمضيناها ، وقضيناها مع و عن إسرائيل ، ورجالها ومصالحها داخل مصر ، وذلك من خلال عملنا في التفاوض مع الجانب الإسرائيلي ، بدءاً من اللجنة العسكرية المُشتركة المعنية بترتيبات الانسحاب (والتي كان يرأسها العميد المرحوم صفي أبو شناف) ، إلي لجنة تطبيع العلاقات (العامة داخل مصر أو المُشتركة) والتي كان يشارك بها اللواء (المرحوم) فتحي عباس عن المُخابرات الحربية..
(9) وبدأ السفير (المرحوم) صلاح أبو جبل يتلقي إتصالات واستفسارات من الجانب الألماني ، ولكنه لم يكن لديه رداً ، لأن القاهرة لم يكن بها من يملك الإجابة!..
(10) ورُحت أتذكر بداياتي في هذا الملف:
(10/أ) من يوم أن قررت وقبل تخرجي من جامعة القاهرة أن اكتسب اللُغة العبرية في كورسات جامعة عين شمس (1977:73).
(10/ب) إلي قيامي عام 1978 بإعداد دراسة خاصة عن [الحُريات السياسية في إسرائيل] فور دخولي المعهد الدبلوماسي بوزارة الخارجية ، وإنعقاد لجنة لمُناقشتي من السفير أسامة الباز ، والدكتور محمود خيري عيسي ، عميد كلية الاقتصاد والعلوم السياسية (رحمهما الله) ، وحيث قررت اللجنة منحي تقدير إمتياز مع التوصية بطباعة وتوزيع الدراسة علي كافة بعثاتنا الدبلوماسية والقُنصلية في الخارج.
(10/ج) إلي لحظة أن تم إبلاغي فور عودتي لمطار القاهرة (من مُهمة حامل حقيبة) بصدور قرار تعييني عضواً بـ [لجنة تطبيع العلاقات المصرية الإسرائيلية] (1978)، والتي تشكلت من 5 أفراد بقرار جمهوري ، كُنت أنا أصغرهم سِناً وأحدثهم درجة ، وكانت اللجنة برئاسة اللواء المرحوم طه المجدوب ومن أجلها تَعيّن سفيراً بالخارجية..
(10/د) وتجربتي المُنفردة في الإسهام في إنشاء وتأسيس آلية ذات طبيعة سياسية وأمنية خاصة ، خلافاً للعموم من إستلام العمل من زميل سابق ينقل له الخبرة والملفات.
(10/و) وهي تجربة فريدة أيضاً من حيث أن مقر عملنا كان شكلياً داخل مقر الوزارة بالتحرير؛ لكن لا أحد بالوزارة يدري عما نفعله ، حيث كانت إتصالاتنا علي مدار 24 ساعة خارج الوزارة وتقاريرنا للعرض علي السيد النائب (حسني مٌبارك).
(10/ز) وأول لقاء جمعني بالاسرائيليين كان في إطار اللجنة العسكرية المُشتركة في بير سبع والعريش قبل الانسحاب الإسرائيلي ، وحيث كان يحضر وقتها لإصطحابي فجراً العقيد زعلوك (رحمه الله) من المُخابرات الحربية كي نستقل الهيلوكوبتر من قاعدة شرق القاهرة (1979:78).
(10/ح) وكيف أنني كُنت أبدو وقتها خلال هذه اللقاءات أكثر الموجودين بروداً وأقلهم إنفعالاً أو تأثراً؛ بحكم إقترابي ودراساتي السابقة للعقلية الإسرائيلية.
(10/ط) ثُم إجتماعات لجنة التطبيع داخل مصر مع الجهات المعنية والمُختصة السيادية والفنية والخدمية ، وكم كانت كاشفة بحقيقتنا وإمكاناتنا في الداخل ، حيال ملف إقتصر التعامل فيه منذ عام 1948 علي كل ما هو محظور وعسكري.
(10/ى) وإجتماعات اللجنة مع الجانب الإسرائيلي في تل أبيب والقاهرة.
(10/ك) وتكليفي بمُرافقة الوفد الإسرائيلي لإختيار أول مقر لسفارتهم بالقاهرة في 29 ش محيي الدين ابوالعز بالدُقي.
(10/ل) وما كان من تكليفي لحضور مراسم إفتتاح أول مقر لسفارتهم ورفع العلم ، لتغطية ما كان من غياب كبار المسئولين المصريين! (ديسمبر79).
(10/م) وهي اللقطة التي إستهلها المخرج خالد يوسف في مُقدمة فيلمه [العاصفة]!.
(10/ن) وبينما نشرت الصُحف الإسرائيلية صورتي بفرحة وإنتصار ، نشرت صحيفة “تشرين” و “البعث” العراقيتان صورتي بصدر صفحتها الأولي تحت عنوان باللون الأسود [يوم العار – هؤلاء هُم الخونة]! .
(10/ص) وجاء موعد سفري علي C-130 ضِمن أول طاقم لإفتتاح أول سفارة في تل أبيب (5 يناير1980)، وكانت – أيضاً – إمتداد لتجربة مُنفردة وفريدة.
(10/ع) وكان من قبلها قد تقرر وضح حماية أمنية علي منزلي ومنزل والدتي (يرحمها الله) ، …
(11) وغني عن التعريف ؛ أن مُعايشة المُجتمع الإسرائيلي من الداخل ، بكافة صنوفه وتركيباته سواء العرقية أو الفكرية (أشكيناز / سفرديم / الدروز / الصهاينة / الحريديم/ الليكود / حزب العمل / الأحزاب الهامشية / اليهود العرب / عرب 48 / فلسطينيو الضفة والقطاع / .. إلخ..) لهو أمر كفيل بتوفير رؤية ودراية؛ تتعدي بكثير الدراسات والكُتب التي يتم إعدادها عن بُعد ومهما كان الإقتراب..
(12) وأعود وأقول أنه من مُفارقات التاريخ في سيرة السادات أن الرجل الذي أقام حرباً بعد هزيمة ، ثُم سلاماً بعد عداوة ، .. تناقص حلفاؤه وإختفي أصدقاؤه ، وإزداد أعداؤه ، بل وتمني جميعهم موته وإزاحته!..
(13) كما وأنني كُنت – وما زلت – أري ان الاستمرار في الإصرار علي إرجاع مسئولية كُل ما نَمُر به الي إسرائيل وأمريكا كأعداء تقليديين؛ هو نهج ينبغي أن يوضع في حجمه الطبيعي دون مبالغة؛ ودون أن نتخلي عنه..
(14) وأن قائمة أعداء وخصوم مصر عام 1981 كان بها من هو أخطر وأشد قُرباً وتأثيراً من تل أبيب وواشنطن .. وكذلك حالنا اليوم!..
(15) والواقع أن قرارات السادات (رحمة الله عليه) : حرباً أو سلماً؛ كانت – دائماً – كفيلة بخلق خصومة وأعداء له ، سواء في الداخل أو الخارج!..
(16) وبالتالي؛ الكُل كان وراء مقتله!.. بما فيهم السادات نفسه!..
السفير / مدحت القاضي
}عضو الهيئة الاستشارية لتحليل السياسات الإيرانية AFAIP – كبير مٌستشارين مركز القانون والعولمة CLG جامعة رينمين/بكين – سفير مصر لدي سلطنة عٌمان سابقاً{