آراء

أهداف الحماية الاجتماعية… لماذا وُجدت؟ (2)

بقلم: معمر اليافعي

Advertisement

في النقاش الوطني حول الحماية الاجتماعية، غالبًا ما ينشغل الناس بالأرقام والمعايير والشروط، بينما تغيب الأسئلة الأعمق: لماذا وُجدت هذه المنظومة أصلًا؟ وما الغاية التي تسعى الدولة من خلالها إلى حماية مواطنيها؟ وما الخط الفاصل بين «الدعم» بوصفه مساعدة ظرفية، و«الحماية» بوصفها سياسة دولة، و«التمكين» بوصفه مستقبلًا يجب أن يصل إليه الجميع؟

إن الحماية الاجتماعية في جوهرها ليست بندًا ماليًا في ميزانية حكومية، ولا مجرد برامج تستهدف بعض الفئات، بل هي مشروع دولة؛ مشروع يتجاوز المساعدات المباشرة ليبني رؤية شاملة حول كيفية حفظ كرامة الإنسان، وتحقيق توازن المجتمع، وضمان الاستقرار الاقتصادي والسياسي. وإذا كان المقال الأول قد وضع الأساس الفلسفي للحماية بوصفها صمام أمان للدولة والمجتمع، فإن هذا المقال يذهب إلى سؤال أعمق: ما الهدف الحقيقي الذي تسعى إليه الحماية الاجتماعية في سياق الدولة الحديثة؟

Advertisement

فالإنسان، مهما بدا قويًا، يظل معرضًا لهشاشة لا يمكن التنبؤ بها: مرض مفاجئ، فقدان عمل، وفاة معيل، ضربة اقتصادية، أزمة صحية، أو ظروف تعجز الأسرة عن مواجهتها بقدراتها الذاتية. وهنا تتدخل الدولة، لا بوصفها مانحًا، بل بوصفها شريكًا في حماية استقرار الفرد والأسرة، وبالتبعية حماية استقرار المجتمع.

أول أهداف الحماية الاجتماعية هو حماية الدخل عند الصدمات. فالاقتصاد الحديث، بتقلباته ومفاجآته، لا يمنح الأمان الكامل للفرد مهما كان ملتزمًا أو مجتهدًا. والعامل الذي يخسر وظيفته بسبب إغلاق مؤسسة، أو رب الأسرة الذي تتراجع صحته فجأة، لا ينبغي أن يُعاقَب على ظروف لم يصنعها. هنا تصبح الحماية الاجتماعية التدخل الوحيد الذي يمنع تحول العثرة إلى انهيار، والفقدان إلى أزمة، والضعف إلى فوضى داخل الأسرة.

الهدف الثاني يرتبط بحماية كبار السن. ففي المجتمعات التقليدية، كانت الأسرة هي المظلة الطبيعية للشيخوخة، لكن الأوضاع تغيّرت، وتغيّرت معها قدرة الأسرة على توفير دعم كامل لمسنّ فقد القدرة على العمل. ومن هنا، فإن توفير حد أدنى من الدخل والعيش الكريم لكبار السن ليس فضلًا، بل ضرورة أخلاقية وسياسية. فالمسن الذي أفنى عمره في خدمة الوطن يجب ألّا يجد نفسه في آخر عمره تحت وطأة الحاجة أو انتظار المعونة من أبناء بالكاد يلبّون احتياجاتهم.

أما الهدف الثالث فهو حماية الطفل. فالطفل الذي يعيش في بيئة من الفقر الشديد، أو في أسرة هشّة، يصبح أكثر عرضة للتسرّب من التعليم، والعمل المبكر، والمشكلات النفسية، والسلوكيات المنحرفة. وهنا يظهر الدور الأسمى للحماية الاجتماعية: حماية مستقبل الوطن عبر حماية أضعف فرد فيه. فالطفل الذي يُحمى اليوم هو المواطن المنتج غدًا، وهو من سيبني الاقتصاد ويدافع عن الاستقرار.

وإلى جانب الطفل، يأتي الهدف الرابع: رعاية أصحاب الأمراض المزمنة والإعاقات. فهذه الفئات لا تعيش ضعفًا اقتصاديًا فقط، بل ضعفًا مضاعفًا نفسيًا وجسديًا. لذلك، فإن وجود مظلة حماية لهم ليس رفاهية، بل تأكيد لمبدأ العدالة؛ فالعدالة لا تعني مساواة الجميع، بل تعني توفير حماية أكبر لمن يواجه ظروفًا أقسى. وكل دولة تسعى إلى تحقيق العدالة تضع هذه الفئة في مقدمة أولوياتها، لأنها تمثل معيارًا أخلاقيًا لنضج المجتمع.

الهدف الخامس للحماية الاجتماعية يرتبط بالأسر الهشّة التي تعيش على حافة الفقر، لكنها ليست فقيرة بما يكفي للحصول على المساعدات التقليدية. هذه الأسر قد تنهار لأسباب بسيطة: دين طارئ، تعطل وسيلة نقل، مرض مفاجئ، أو ارتفاع الإيجار. وهنا لا تكون الحماية الاجتماعية مجرد دعم مالي، بل تدخلًا مبكرًا يمنع سقوط هذه الأسر إلى نقطة يصعب العودة منها. فالحماية ليست فقط لمن سقط، بل لمن يوشك أن يسقط.

وعلى مستوى أوسع، فإن من أهم أهداف الحماية الاجتماعية منع الفقر من التحول إلى مشكلة أمنية. فالفقر — إذا تُرك بلا حماية — يولّد التوتر، والتوتر — إذا تراكم — يولّد انفجارًا اجتماعيًا. لذلك تنظر الدول الحديثة إلى الحماية الاجتماعية بوصفها جزءًا من أمنها الوطني. فالفقر ليس مشكلة فردية، بل قضية دولة، والفجوات الاجتماعية ليست أرقامًا اقتصادية، بل مقدمات لاضطرابات تهدد السلم الأهلي.

وتنبع رؤية الدولة الحديثة للحماية الاجتماعية من إدراك أن الإنسان عندما يشعر بأن الدولة تحميه، يبني علاقة ثقة معها. وهذه الثقة ليست مجرد شعور، بل طاقة وطنية تصنع التماسك. فالمواطن الآمن هو المواطن المنتج، والذي لا يهاجر، ولا ينجرّ إلى العنف أو التطرف، ويُربي أبناءه على حب الوطن بدل الشعور بالخذلان. وهكذا تتحول الحماية الاجتماعية إلى استثمار في الاستقرار قبل أن تكون إنفاقًا ماليًا.

أما التمكين، فهو الهدف الأعمق للحماية الاجتماعية. فالمقصود ليس أن تمنح الدولة الإنسان مالًا فحسب، بل أن تعيده إلى سوق العمل، وتفتح أمامه الفرص، وتمنحه التدريب والتأهيل، وتساعده على إنشاء مشروع صغير، أو توفر له دعمًا تقنيًا لبدء حياة اقتصادية جديدة. فالإنسان المُمكَّن يُنتج أكثر مما يأخذ، ويصبح جزءًا من القوة الاقتصادية للدولة بدل أن يكون عبئًا عليها.

غير أن التحدي الحقيقي يكمن في التطبيق العملي. فالأهداف النظرية — مهما كانت صحيحة — لا تكفي ما لم تُترجم إلى إجراءات مرنة وعادلة تستوعب الواقع. فهناك أسر تخرج من نطاق الاستحقاق لأن لديها دخلًا بسيطًا لا يكفيها، وأفراد يرزحون تحت ديون كبيرة لا تنعكس في التقييم، ورجال تجاوزوا الخمسين فقدوا وظائفهم ولا يستطيعون العودة إلى سوق العمل، ومع ذلك يُصنَّفون على أنهم قادرون على العمل. وهناك أسر يُستبعد فيها الزوج من الحماية لأن الزوجة تعمل، رغم أن الواقع الاجتماعي والقانوني والشرعي يؤكد أن النفقة مسؤولية الرجل لا المرأة.

هنا تتعارض فلسفة الحماية الاجتماعية مع تطبيقها. وهذا التناقض ليس خطأ دولة بقدر ما هو نتيجة نظام حيّ يحتاج مراجعة وتحديثًا مستمرين، لأن المجتمع يتغير، والاقتصاد يتغير، والفقر يتخذ أشكالًا جديدة كل عام.

إن السؤال اليوم ليس: هل الحماية الاجتماعية مهمة؟

بل: هل تُطبَّق أهدافها كما ينبغي؟

وهل تضمن المعايير الحالية وصول الدعم إلى أكثر الناس حاجة؟

وهل تُقرأ ملفات الأسر بعيون الواقع أم بعيون الورق؟

فالحماية الاجتماعية — حين تكون فعّالة — تحمي الإنسان، وتحمي الأسرة، وتحمي الطفل، وتحمي المسن، وتحمي المريض، وتحمي الدولة.

وحين تكون ضعيفة أو غير دقيقة، فإنها تترك الإنسان وحيدًا أمام قسوة الحياة، وتترك الدولة أمام احتمالات لا ترغب في مواجهتها.

لقد أثبت التاريخ أن الدول التي تفهم معنى الإنسان هي الدول التي تصنع مستقبلًا آمنًا،

وأن الحكومات التي تبني حماية اجتماعية عادلة هي الحكومات التي تزرع الانتماء الحقيقي،

وأن المجتمعات التي يشعر أفرادها بالأمان لا تعرف الانهيارات ولا الانفجارات.

وهكذا، فإن أهداف الحماية الاجتماعية ليست وثيقة تُكتب،

بل وعدًا أخلاقيًا بين الدولة ومواطنيها،

ليس وعدًا بالمال فقط، بل وعدًا بالكرامة.

ووعد الدولة — عندما يكون صادقًا — هو أساس كل استقرار.

معمر اليافعي (ابن الحصن)

كاتب وباحث عُماني مهتم بالفكر والهوية والفلسفة المعاصرة

رئيس تحرير سابق لمجلة «بيادر»

صاحب تجربة طويلة في الإعلام والثقافة والتجارة

مؤسس مشروع «ثروان» – رؤية ثقافية وتجارية لإحياء التراث الخليجي بروح عصرية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى