آراء

أبوظبي… حين تتكلم الثقافة بلغة المستقبل

بقلم: معمر اليافعي

Advertisement

ليست أبوظبي مجرد عاصمة سياسية لدولة حديثة، ولا مدينة تلمع في نشرات الأخبار بسبب اقتصادها القوي أو عمرانها الباذخ، بل هي مشروع وعي عربي جديد، يختبر فكرة الدولة من خلال الثقافة، ويعيد طرح السؤال الأعمق: كيف يمكن للمدن أن تبني نفسها بالعقل قبل الحجر، وبالمعنى قبل الشكل؟

في أبوظبي، لا تُرى الثقافة بوصفها “تزيينًا حضاريًا”، بل “تخطيطًا وجوديًا”. فكما يُبنى الجسر لعبور النهر، تُبنى الثقافة لعبور الزمن. ولذلك، حين تمشي في شوارعها أو تدخل أحد متاحفها، لا تشعر بأنك تزور مدينة، بل تدخل نصًا مفتوحًا يُكتب بالفكر كل يوم.

Advertisement

المدينة التي تنظر إلى التراث كذاكرة حيّة لا كحكاية قديمة، وتتعامل مع الحداثة كحوار مستمر لا كقطيعة، اختارت منذ بداياتها أن تكون جسرًا بين الرمل والضوء؛ بين صحراء تحفظ نقاء الأصل، وأفق يعلن جرأة التحوّل. في هذا التوازن العميق يكمن سرها: فهي ابنة المكان، لكنها لا تكتفي بمكانها.

من يتأمل تجربة أبوظبي الثقافية يرى بوضوح أنها لم تأتِ صدفة. منذ بدايات الاتحاد، كانت هناك رؤية راسخة عبّر عنها الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان – طيب الله ثراه – حين قال: «الثروة الحقيقية هي الإنسان». كانت تلك الجملة بمثابة الدستور الروحي للثقافة الإماراتية كلها؛ فالثروة لا تُقاس بالبترول ولا بالأبراج، بل بقدرة الإنسان على إنتاج الفكر والمعرفة والإبداع.

ومن هنا، وُلد مشروع ثقافي لا يشبه سواه في المنطقة. مشروع لا يسعى لتكديس الفعاليات بقدر ما يسعى لتكوين الوعي. فالمتاحف في أبوظبي ليست “أماكن عرض”، بل مدارس للرؤية؛ من “متحف اللوفر أبوظبي” الذي مزج بين الحضارات في قبّة عربية، إلى “قصر الحصن” الذي يعيد رواية التاريخ بلغة معاصرة، إلى “بيت العود” الذي يعلّم الأجيال أن الموسيقى ليست صوتًا بل هوية، إلى “المجمع الثقافي” الذي يجمع بين الفن والكتاب والمسرح، لتصبح الثقافة مثل شجرة تتفرع جذورها في الزمن وتمتد أغصانها نحو المستقبل.

ما يميز أبوظبي أنها لم تسعَ لأن تكون نسخة من باريس أو لندن، بل أرادت أن تكون وجهًا عربيًا للحداثة؛ حداثة تنبع من جذور المكان لا من تقليد الخارج. ولعل هذا ما جعلها تكتسب احترام العالم؛ فهي تتحدث بلغة عالمية لكن بلكنة عربية صافية، تمزج بين الدقة الأوروبية في التنظيم، والدفء الشرقي في الروح.

تجربة أبوظبي الثقافية لا تُبنى على الاحتفالية اللحظية، بل على الاستدامة. ففي مهرجاناتها، تجد كل فعالية مرتبطة بفكرة كبرى: التعليم، الحوار، الفنون، البحث، التطوير. كأن المدينة تضع على كتفيها مسؤولية صناعة “الوعي الجمعي” لا الترفيه الجماعي. فهي تدرك أن الثقافة لا تُقاس بعدد الحضور، بل بعدد القلوب التي تُفتح، والعقول التي تُستنار.

ولعل أهم ما يميز أبوظبي هو قدرتها على إدارة التنوع. ففيها تتجاور عشرات الجنسيات والديانات والثقافات في انسجام نادر، لكنها لم تفقد ملامحها العربية. هذا التوازن بين الانفتاح والهوية يمنحها فرادتها. إنها مدينة تفتح الأبواب للعالم، لكنها تحتفظ بمفتاحها الخاص. وفي زمن تتنازع فيه الأمم بين الانغلاق والذوبان، تمثل أبوظبي نموذجًا ثالثًا: أن تكون منفتحة دون أن تفقد ذاتها، وأن تتفاعل دون أن تتنازل.

أدركت القيادة الإماراتية أن الثقافة ليست مشروع نخبة، بل مسؤولية مجتمع. لذلك جاءت مبادراتها لتلامس الجميع: من القراءة في المدارس إلى دعم المبدعين الشباب، من تمويل المشاريع الفنية إلى إنشاء معاهد متخصصة لتعليم العزف والتصميم والابتكار. كل هذا يصنع من الثقافة نهجًا للحياة لا حدثًا موسميًا.

والأجمل أن أبوظبي تعيد بناء العلاقة بين الفكر والاقتصاد. فالثقافة هنا ليست بعيدة عن التنمية، بل هي جزء من اقتصاد المعرفة الذي تسعى الدولة لترسيخه. فالمبدع لا يُعامل كهاوٍ، بل كمنتج، والفنان لا يُنظر إليه كصاحب هواية، بل كمحترف يساهم في الناتج الوطني. وهكذا تتحول الثقافة من رفاهية إلى استثمار، ومن إنفاق رمزي إلى قيمة إنتاجية.

في عمق هذه الرؤية، ثمة فلسفة إماراتية هادئة تقول: إن بناء المدن ليس في ارتفاع أبراجها، بل في عمق رؤيتها. فالأبراج يمكن أن تُشيّد في سنوات، لكن بناء الوعي يحتاج أجيالًا. ولهذا تجد في أبوظبي نوعًا من الصمت الجميل؛ صمت مليء بالعمل، يشبه السكون الذي يسبق ميلاد الضوء. إنها مدينة تنصت أكثر مما تتكلم، وتفكر أكثر مما تُعلن، وتبني أكثر مما تُظهر.

لكنّ التحدي الأكبر أمامها اليوم هو الحفاظ على إيقاعها الخاص وسط ضجيج العالم. ففي عصر السرعة والذكاء الاصطناعي وتبدّل القيم، تحتاج المدن إلى تذكّر سبب وجودها. وأبوظبي، التي اختارت طريق الثقافة والعقل، مطالبة اليوم بأن تواصل حماية هذا المسار من التحوّل إلى مجرد واجهة. أن تبقى الثقافة فيها “ضميرًا وطنيًا”، لا “زينة حضارية”. أن تظل التجارب فيها إنسانية الجوهر مهما بلغت التقنية من تقدم.

إن هذه المدينة، التي جمعت بين البحر والرمل، وبين الماضي والمستقبل، تمثل اليوم مختبرًا لتجربة عميقة في العالم العربي: تجربة الدولة التي تفكر ثقافيًا. فهنا لا تُصاغ الهوية في المؤتمرات، بل في التفاصيل اليومية: في الكتاب الذي يُوزع في المدارس، في المتحف الذي يستقبل العائلات، في الحوار الذي يُفتح بين الثقافات المختلفة.

لذلك، فإن أبوظبي لا تنتمي فقط للإمارات، بل للعرب جميعًا، لأنها تقدّم لهم صورة عن إمكانية أن نحيا الحداثة دون أن نفقد الطمأنينة؛ أن نعيش في مدينة ذكية لا تنسى أن تكون إنسانية؛ أن نرى في الفن وسيلة لتربية الروح، وفي المتحف درسًا في الانتماء، وفي الكلمة بذرة للتنوير.

إنها مدينة تُذكّرنا أن الحضارة ليست ما نملك، بل ما نُبدع. وأن المستقبل لا يُشترى… بل يُصنع بالعقل والخيال.

من تأملات ثروان:

“المدن العظيمة لا تُقاس بما تبنيه من أبراج، بل بما تزرعه من وعي.

وأبوظبي… تبني المستقبل كما تُبنى القصيدة: بحروف من حلم وحكمة.”

معمر حسين اليافعي (ابن الحصن)

كاتب وباحث عُماني مهتم بالفكر، الهوية والفلسفة المعاصرة.

رئيس تحرير سابق لمجلة “بيادر”.

صاحب تجربة طويلة في الإعلام، الثقافة، والتجارة.

مؤسس مشروع “ثروان”؛ رؤية ثقافية وتجارية تهدف إلى إحياء التراث الخليجي بروح عصرية، وربط الماضي بالحاضر، واستثمار الهوية كقوة ناعمة في صناعة المستقبل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى